إذاعة BBC

ابحث فى مدونتى

form method="get" action="/search" id="search">

الاثنين، 14 يناير 2013


يوليو 2012
7

قناه السويس. حكاية شعب
المصدر: ديوان الأهرام
بقلم:   سهام عباس
محمد على باشا

«إننى أرى وراء الغيب أن عملك سيجلب الضرر على مصر فحفر القناة سيعود بالفائدة على الغريب دون القريب، وعلى الأجنبى دون الوطنى». - العرافة ميليت
كان قرار عبدالناصر ــ الذى أعلنه على العالم مساء 26 يولي 1956 ــ بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية وتحويلها إلى شركة مساهمة مصرية - بداية الأحداث التى هزت الدنيا.
ثورة أخرى على مراوغة الغرب لتنفيذ مشروع السد، كما كان البداية المنطقية التى يجب أن يبدأ منها كل من يتصدى أ يحاول التصدى لفهم القرار. والأحداث التى تداعت عنه.
لم تكن فكرة شق القناة وليدة التاريخ الحديث وعصر ديليسبس، بل إنه بمتابعة التاريخ المصرى القديم نجد أن فكرة ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر بطريق مائى لاستخدامه فى النقل البحرى تسهيلاً لنقل البضائع وتيسيراً لعمليات المبادلات التجارية بين الشرق والغرب، ترجع إلى نح أربعين قرناً مضت. ومن ذلك يتضح أن مصر هى أول دولة فى العالم فكرت وقامت بشق قناة صناعية لاستخدامها فى أغراض السفر والتجارة.
"قناة الفراعنة"
فيما بين سنتى 1887 و1849 قبل الميلاد حكم "سنوسرت الثالث" - وه أحد فراعنة الأسرة الثانية عشرة - وكان معروفاً بالشجاعة وبُعد النظر، وقد تحقق على يديه شق قناة تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر.
وفى سنة 610 قبل الميلاد فى عهد الفرعون "نخا الثانى" امتلأت القناة بالأتربة أ كادت لافتقارها إلى الصيانة فترة طويلة من الزمن وتكون سد أرضى عزل البحر الأحمر عن البحيرات المرة، فكرس "نخا الثانى" جهوده لإعادة شق القناة إلا انه توقف عن إتمام العمل الذى بدأ فعلاً لوصل البحر الأحمر بالبحيرات المرة بسبب نبوءة العرافة "ميليت". وهى إحدى كاهنات معبد هليوبوليس.
فلقد سجلت «ميليت» فى نبوءتها ما يلى: «إننى أرى ما وراء الغيب أن عملك سيجلب الضرر على مصر، فحفر القناة سيعود بالفائدة على الغريب دون القريب، وعلى الأجنبى دون الوطني، إنك اليوم تتقاضى الرسوم على مرور الناس بأرضك وعلى مرور التجارة والقوافل وتتحكم فى مصير الناس والبضائع، أما غداً فسيمر جميع الناس عبر القناة التى ستجذب الجميع وتجذب أيضاً مطامع الأعداء فتفقد السيطرة على القناة وتجعل للخطر منفذاً إلى قلب البلاد، فبحق الآلهة وبحق الوطن عليك أصدر أوامرك (بوقف العمل) والحفر». ومن الغريب أن نبوءة العرافة "ميليت" قد تحققت بالفعل ولكن ليس فى عهد "نخا الثانى"، وإنما بعده بما يقرب من 2500 سنة.
لقد أسهمت القناة - كما سنرى فيما بعد - فى إعادة تكوين مصر جغرافياً وحضارياً،وكانت - فى ذات الوقت - المغناطيس الذى جذب إلينا كل أسلحة الأعداء فى العالم.
- قناة الفرس
أمر "دارا بن حتشوشب" ملك الفرس باستمرار الحفر الذى بدأه "نخا الثاني"، وأدخل عليها تحسينات كبيرة، ولكنه لم يفلح فى وصل البحيرات المرة بالبحر الأحمر إلا بواسطة قنوات صغيرة لم تكن صالحة للملاحة إلا أثناء فيضان النيل.
- (قناة الإغريقى القديم لمدينة السويس)
"قناة الرومان"
قام الإمبراطور "تراجان" بحفر وصلة جديدة تبدأ من "بابليون" (القاهرة) وتصب فى القرية المعروفة بالعباسية، حيث تتصل بالفرع القديم (يوبستا – البحيرات المرة) غير أن القناة أهملت من جديد فى عهد البيزنطيين، إذ تركوا التراب يطغى عليها وغدت غير صالحة للملاحة على الإطلاق.
- قناة أمير المؤمنين
وبعد الفتح الإسلامى لمصر (سنة640) جاء عمر بن العاص - رضى الله عنه - وأحيا الوصلة من جديد، وقد خطر له فى عهد ولايته الأولى على مصر(641 -644م) أن يحفر قناة تصل مباشرة بين البحرين وتشق السهل المنبسط القليل الارتفاع الممتد جنوبى (فرما)، وهى مدينة كانت قائمة على مقربة من موقع بورسعيد الحالي. ول أمكن لعمر أن ينفذ فكرته لكان أول من وصل البحرين مباشرة دون اللجوء إلى فرعى النيل،لكن الخليفة عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - عارض هذا المشروع، خشية أن يؤدى شق البرزخ بعرض مصر كلها لطغيان مياه البحر الأحمر، فأمر عمر بأن يكتفى بإعادة قناة الرومان القديمة لكى يتسنى للسفن السفر إلى الحجاز واليمن والهند.
واستخدمت زهاء مائة وخمسين سنة لنقل الحجاج إلى بيت الله الحرام. على أن الخليفة أبا جعفر المنصور أمر بردمها فى نهاية القرن الثامن كى لا تستخدم فى نقل المؤن إلى أهل (المدينة) الذين تمردوا على سلطته فتعطلت بذلك همزة الوصل بين البحرين مدة أحد عشر قرناً.
"محمد على وقناة السويس"
فى سنة 1847 أوفدت (جمعية الدراسات) إلى محمد على وفداً فرنسياً من المهندسين برياسة "نيجريللى" لإجراء أبحاث خاصة بالقناة المقترحة فرحب بهم محمد على باشا وقدم إليهم كل معونة، وعرض الفرنسيون عليه مشروع شق القناة، وأثبت محمد على أنه كان أبعد نظراً من أحفاده وأسرته جميعاً، فقد رفض محمد على باشا الكبير المشروع الفرنسى كما عرض عليه، وأصر على ضرورة إشراف الحكومة المصرية على تنفيذه وتمويلها له لكى تخلص القناة لمصر، كما أصر على ضمان الدول الكبرى لحيدة مصر وبهذين الشرطين الذكيين. أثبت محمد على باشا بعد نظره وحرصه على تجنيب مصر ويلات التدخل الأجنبى وفى ذات الوقت تم عمل قناطر (القناطر الخيرية)، كما أن الإنجليز بدأوا يحاولون فى أوائل القرن التاسع عشر استخدام الطريق المصرى القديم توفيراً للوقت واتقاء لمخاطر السفر بالمحيط،وفى سنة 1829 قبل افتتاح قناة السويس بأربعين عاماً عادت التجارة مع الهند إلى سيرتها الأولى عبر الأراضى المصرية.
"المقامر والوالى"
لم تكن العلاقة بين المغامر والوالى إلا امتداداً لعلاقة قديمة بين الأبوين: القنصل الفرنسى فى القاهرة(ماتي ديليسبس) ومؤسس مصر الحديثة (محمد على).
والابن " فرديناند ديليسبس" وثيق الصلة بالابن سعيد باشا، وكان "ماتي ديليسبس" على صلة مماثلة بمحمد على "كان محمد على باشا صديقاً لماتي ديليسبس" قنصل فرنسا الذى أرسلته إلى القاهرة بعد معاهدة "أميان" عام 1802، وكان محمد على فى ذلك الوقت ضابطاً نكرة فى الجيش التركي، وتصادف أن دعاه ماتي ديليسبس إلى مأدبة عشاء أقامها بالقنصلية الفرنسية وبعد انتهاء المأدبة اكتشف الخدم سرقة الملاعق والشوك والسكاكين الفضية وأبلغوا ماتي بالسرقة، حين كان جالساً مع ضيوفه يتسامرون، وتصرف ماتي بعقلية فرنسية أصيلة، فأجرى تحقيقاً بين الخدم، وفتشهم تفتيشاً دقيقاً فلم يعثر على المسروقات، وفى لحظة انفعال أعلن ماتي ديليسبس أمام المدعوين أن السرقة قد وقعت، وصمم المدعوون على أن يستمر ماتي فى التحقيق ويتولى تفتيشهم. وكان بين المدعوين الضابط الألبانى النكرة بالجيش التركى والعيون تحاصره، تحاصر سراويله الضخمة الفضفاضة التى يستطيع أن يخفى داخلها المسروقات بسهولة، وكان الضابط الألبانى ممتضع الوجه، مرتبكاً، وكان ه الوحيد الذى رفع صوته محتجاً على التفتيش،وبلباقة فرنسية انحنى "ماتي ديليسبس" أمام اللص الألبانى وقال له معتذراً: "يا سيدى الضابط لن أفتش أحداً وأنا أعتذر لك أمام الجميع إذا كان قد تبادر إلى ذهنك أى خاطر يسيء إليك. وخرج المدعوون وتبعهم الألبانى يهتز متثاقلاً فى سراويله. ونهر ماتي ديليسبس أحد الخدم لأنه أقسم أنه سمع صلصله المسروقات فى سراويل الألبانى.
بعد ثلاثين عاماً، كان الضابط الألبانى النكرة ذ السراويل الفضفاضة والياً على مصر، يحكمها كما يشاء، وكان على صداقته الحميمة لماتي ديليسبس.
وامتدت صداقة الآباء إلى الأبناء وتحولت صداقة سعيد( ابن الوالى محمد على) وفرديناند ديليسبس (ابن ماتي ديليسبس) إلى نواة لتنفيذ مشروع حفر قناة السويس.
الاسباجتى. بداية العلاقة
بين ديليسبس وسعيد
بدأت العلاقة بين السارق والمسروق فى طفولة سعيد الهارب من قسوة وصرامة والده محمد على إلى بيت ماتي ديليسبس، فقد كانت مشكلة سعيد أنه شخص بدين ووالده محمد على باشا يكره البدانة لأنها ضد المظهر العسكرى فأمر ابنه سعيد بأن يتحول إلى رجل رشيق القوام ووضع له برنامجا ًصارماً يصعد فيه كل يوم صارية سفينة، ثم يقفز بالحبل، يجدف فى النيل، ثم بعد ذلك يذهب إلى القلعة ويجرى بمحاذاة أسوارها. وكان سعيد السمين يلهث من التعب ويقرصه الجوع ويتقلص بطنه من الألم فلا يقدم له إلا المسلوق فيهرب إلى بيت ماتي ديليسبس، وهناك يلعب مع فرديناند ديليسبس ابن ماتي ويلتهمان أطباق الأسباجتى بالصلصلة الحمراء واللحم المفروم، ومن الطفولة إلى الشباب تنم العلاقة وتتطور، كان فرديناند لا يسيطر على سعيد بالطعام فقط بل سيطر عليه بالجنس، فقد سافر سعيد مع فرديناند إلى باريس وانطلقا يلهوان فى الحى اللاتينى ويطوفان بالمراقص الرخيصة، وجمع سعيد حوله النساء وتوهم أن بنات باريس مفتونات به، وعاد سعيد إلى مصر وبقى فرديناند فى مزرعته فى باريس.
رحلة قناة السويس الهزلية
لم يكن تنفيذ مشروع قناة السويس إلا تتويجاً لرحلة هزلية طويلة بدأت بأطباق الطعام فى مصر والفتيات الرخيصات فى ملاهى باريس!
فبعد أن نجحت مؤامرة اغتيال عباس الأول فى قصره فى بنها فى 14يوليو1854، اعتلى عرش مصر من بعده الأمير المحروم الجائع النهم سعيد بن محمد على ليصبح حاكماً لمصر، وكان ديليسبس فى ذلك الوقت قد طرد من خدمة السلك الدبلوماسى الفرنسى، ولكنه عندما علم بنبأ تعيين سعيد بن محمد على والياً على مصر بادر بالاتصال بجمعية الدراسات الخاصة بقناة السويس فى باريس وأطلعها على ما يثبت سابق صلته بسعيد وحصل منها على توكيل ليعمل باسمها فى الحصول على امتياز قناة السويس، ولما نجحت خطته أنكر التوكيل وحصل على الامتياز لنفسه.
وكانت فى رأس فرديناند ديليسبس فكرة حمقاء (قال ملائكة العلم إنها مستحيلة) هذه الفكرة هى مشروع حفر قناة تربط بين البحرين الأحمر الأبيض المتوسط لتمتزج مياههما، وفرديناند ديليسبس ه المأذون الشرعى الذى سيعقد القران.
تحولت الفكرة الحمقاء إلى حقيقة ملموسة وكان فرديناند ه المأذون الذى نجح فى توثيق العلاقة الغرائبية بين البحرين وهى فكرة راودت الكثيرين قبله ولم ينجح أحد فى تجسيدها عملياً.
وصل فرديناند إلى الإسكندرية يوم 5 نوفمبر عام 1854 وقابله سعيد بالعناق والقبلات وسافرا معاً إلى القاهرة، واستضافه سعيد لمشاهدة مناورات الخريف فى الصحراء الغربية فى 15 نوفمبر سنة 1854، وفى ذلك اليوم تجلت الفرصة التى كانت أوروبا تترقبها منذ زمن بعيد.
كان فرديناند صاحب عقل متآمر، يعرف كيف يسيطر على البسطاء ويرسم الخطط لمدى بعيد. فه شاعر حالم ودرويش مجذوب متآمر وماكر ونصاب بارع ساحر التأثير. هذا ه المغامر الفرنسى الذى عرف كيف يستثمر العلاقة القديمة ويسخرها لخدمة هدف بدا للكثيرين خيالياً مستحيل التنفيذ، وعلى الجانب الآخر يقف الوالى سعيد باشا الذى استسلم لصديقه القديم - صاحب الفضل فى تزويده بالطعام والنساء الرخيصات والسهرات الصاخبة - وقدم له أكثر مما كان يطمح إليه ويتخيله. الصفقة بينهما ليست ذاتية ولا يمكن أن تكون فالاتفاق يدور حول أرض وشعب.
كان سعيد يصغى إلى فرديناند بانتباه زائد حينما عرض عليه مشروعه وقال له:
أنا مقتنع بالمشروع وفى وسعك أن تعتمد على!
فرمان الامتياز الأول
فى 30 نوفمبر 1854 صدر فرمان الامتياز الأول بشق قناة السويس، ففى الصباح استدعى سعيد باشا ديليسبس إلى القلعة، وفى مجتمع ضم قناصل الدول الذين حضروا لتهنئته بسلامة وصوله فاجأ سعيد أولئك القناصل بما لا يتوقعونه، إذ راح يتل عليهم فرمانات وبنوداً فقال: حيث أن صديقنا مسي فرديناند قد لفت انتباهنا إلى الفوائد والمزايا التى قد تعود على مصر من توصيل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بواسطة طريق ملاحى للبواخر والسفن وأخبرنا عن إمكان تكوين شركة لهذا الغرض من أصحاب رءوس الأموال فقد قبلنا الفكرة التى عرضها علينا وأعطيناه بموجب هذا تفويضاً خاصاً بإنشاء وإدارة شركة لحفر قناة السويس وإدارة القناة بين البحرين، ومنحت الشركة امتياز إدارة القناة لمدة 99 عاماً تبدأ من التاريخ الذى تفتتح فيه القناة للملاحة، على أن تصبح الحكومة المصرية (بعد انتهاء الامتياز) المالكة الوحيدة للشركة وتوابعها بعد تعويض الشركة عن المنشآت التى أوجدتها لخدمة الملاحة فى القناة، وخلال تلك الفترة تكون الشركة خاضعة للقوانين المصرية، كما تحصل الحكومة المصرية على 15% من صافى أرباح الشركة التى ستنشأ لإدارة القناة.
فقد أشبع البند الأول غرور فرديناند ديليسبس وكبرياءه لأنه اسند إليه رئاسة الشركة التى لم تكن قد تأسست بعد.
وفى 5 يناير 1856 تم منح الشركة امتيازًا ثانياً حصلت بمقتضاه على ملكية الأراضى الموجودة على جانبى القناة بعرض كيل مترين، كما حصلت على حق طلب مد الامتياز لمدة 99 عاماً أخرى ولمدد متعددة، وأكثر من ذلك تضمن الفرمان نصاً أخرج الشركة من ولاية القضاء المصرى، وأخطر من ذلك ترك تحديد مساحة الأراضى لمهندس فرنسى ه "لينان بك"، الذى وضع بها خريطة تشمل قطعة من أرض مصر تمتد من بولاق بالقاهرة إلى موقع بورسعيد الحالي، بل ذهب الفرمان إلى حد تمليك مياه النيل، ومياه الترعة العذبة التى تخرج من القاهرة لتغذى منطقة القناة للشركة، وأباح لها أن تبيع ماء النيل للفلاحين، وكذا أعطى مجاناً المناجم والمحاجر التى تراها لازمة لأعمالها، وخولها الحق فى وضع لوائح تقوم مقام القوانين فى منطقة نفوذها. وكأنما هى دولة داخل دولة.
فرمان الامتياز الثانى
وأكبر ما ظفر به ديليسبس تعهد الحكومة المصرية بتقديم أعداد كبيرة من العمال المصريين بطريقة السخرة كما تتعهد الحكومة بأن تشترى الأسهم التى يعجز ديليسبس عن بيعها فى السوق العالمية.
(ريس كومبانية)
فى يوم21رمضان سنة 1275 هجرية والموافق 25 أبريل سنة 1859 ميلادية بدئ فى حفر قناة السويس عند بورسعيد. وأعدت حكومة مصر لهذا العمل 27 ألف عامل بدون أجرة!! بخلاف الشغّالة والمستخدمين، الذين كانوا موجودين هناك فى تلك المنطقة. بدأ الحفر بضربة فأس بيد (المسي فرديناند ديليسبس) وكان يومئذ يسمى (ريس كومبانية خليج السويس) بالإضافة إلى وصفه بأنه "صديق ولى النعم أفندينا سعيد خدي مصر". بدأ الحفر عند نقطة "بيلسور" التى سميت فيما بعد "بورسعيد" تكريماً للخدي صديق ديليسبس؟!
- السُخرة
مئات الألوف من الفلاحين الذين سيقوا من ريف مصر إلى الصحراء الشرقية قسراً. بالكرابيج والسياط تلسع أجسامهم مع حرارة شمس الصيف المحرقة دفعوا ثمناً فادحاً لدهاء ديليسبس وسذاجة سعيد، كم مات من الفلاحين خلال شق القناة، نزعتهم السلطات من حقولهم وديارهم، تخرجهم من مخابئهم وسط عويل أمهاتهم وبكاء أطفالهم يسيرون فى قوافل الموت ليحفروا القناة، وتساقط أبناء مصر موتى بالآلاف بل بعشرات الآلاف. كتب "أوليفين" - كبير المهندسين الفرنسيين وأحد المهندسين الذين شاركوا فى حفر القناة يقول:- "كان العمال المصريون يخوضون فى الماء والطين السائل الذى ينساب ويغمر أجسامهم بينما رءوسهم فى جحيم الشمس وأبدانهم فى عذاب السخرة وآلام الجوع والبؤس والأوبئة، ليس هناك عمال يستطيعون أن يتموا هذا العمل فى أقل من خمسين يوماً - هكذا - ما أتمه هؤلاء العمال المصريون. الذين يعملون وهم غائصون بكل أجسامهم فى الماء ولا تحمى رءوسهم سوى السماء. لقد بلغوا أكثر من مليون ونصف المليون عامل مصرى وكلهم مدهشون حقا. كلهم ذو صبر وجلد عظيمين لقد عرفتهم عن قرب. وأحسست أنهم أبناء شعب عريق".
- افتتاح القناة
وفى يوم 18 نوفمبر عام 1862 تدفقت مياه البحر المتوسط إلى بحيرة التمساح، وفى 18 مارس عام 1869 تم وصل البحر الأبيض بالبحيرات المرة، وفى 15 أغسطس 1869 تم وصل البحر الأحمر بالبحيرات المرة، وانتهت أعمال حفر القناة فى 18 أغسطس 1869 حين تدفقت مياه البحر الأحمر فى البحيرات المرة لتلتقى بمياه البحر الأبيض المتوسط التى كانت قد سبقتها إليها بشهرين وسميت القناة (قناة السويس). وفى 17نوفمبر1869 احتفل خدي مصر إسماعيل باشا رسمياً بافتتاح القناة تحت راية هذه المظالم المروعة، ومن خلال تلك المآسى والحداد، الذى خيم على كل بيت مصري، فكر إسماعيل فى شخصه مدفوعاً بصلفه وكبريائه وأوهمه ديليسبس - الذى أضحى من أصدقائه المقربين - بأنه يستطيع أن يكون ملكاً لمصر، مستقلاً عن تركياً، وكان هذا اليوم بداية الملاحة فى القناة.
- ضياع القناة واحتلال مصر
فى نوفمبر 1875 - بعد 6 سنوات من افتتاح القناة - اضطر إسماعيل باشا إلى بيع نصيبه ونصيب مصر من أسهم قناة السويس التى تمثل 44% من مجموع الأسهم وتعطى مصر حق الحصول على 31% من ربح الشركة، وحرمت مصر تماماً من ملكيتها للقناة، وقد باعت أسهمها لبريطانيا حين عقد "دزرائيلي" رئيس وزراء بريطانيا صفقة شراء الأسهم بسرعة فائقة، وسرية تامة لدرجة أنه اقترض المال من بنك "روتشيلد"، ريثما تتم موافقة البرلمان، وكان ثمن أسهم مصر 100مليون فرنك نحو(39 مليون جنيه)، وكانت إنجلترا تهدف من شراء الأسهم إلى وضع قدمها فى القناة والاشتراك فى إدارة الشركة - التى كانت تنفرد بها فرنسا حتى ذلك الوقت - وصارت بريطانيا تملك 44% من الأسهم ولها 3 أعضاء فى مجلس الإدارة، بل إن إنجلترا عهدت إلى إسماعيل أن يسدد لها 5 ملايين فرنك سنوياً ولمدة 19عاماً، مقابل أرباح الأسهم التى تنازل عنها فى عام 1869 ولمدة 25عاماً. جدير بالذكر أن الأسهم المباعة لإنجلترا قدرت بمبلغ 800 مليون فرنك فى عام 1910 ونتيجة لذلك زادت الديون على مصر لدرجة أن الخدي توفيق- الذى خلف أباه إسماعيل فى الحكم - اضطر إلى التنازل عن حصة مصر فى الأرباح السنوية للشركة وقدرها 15% لبنك فرنسى نظير حصوله على 22 مليون فرنك.
وفى تسلسل الأحداث ضربت إنجلترا عرض الحائط بحياد مصر وغزتها بعد أن خدع ديليسبس أحمد عرابى وقواده وصرفه عن تحصين القناة وعن إقامة الاستحكامات عليها ومنعه من ردم قناة السويس قائلاً: "لا تردموا قناتي"، وأقسم بشرفه أن القناة منطقة حياد وبقعة تحرم فيها العمليات الحربية وأنه يضمن عدم نزول الإنجليز من ناحية القناة. وكان ديليسبس وه يعطى تلك التعهدات يعلم فى قرارة نفسه أنه كاذب ومخادع والمؤلم أن عرابى صدقه على الرغم من تحذير مستشاريه. وفى شهر أغسطس 1882 غزا الإنجليز مصر من ناحية قناة السويس وحصلوا على معونة ديليسبس، ووضعت شركة قناة السويس وإدارتها ومكاتبها تحت تصرفهم.
بعد الاحتلال البريطانى كان الهدف الأكبر لبريطانيا أن يمتد امتياز القناة مدة 40عاماً أخرى لمدة 90 عاماً وينتهى عام 1969 مقابل 4 ملايين جنيه.
لقد احتل الإنجليز مصر سنة 1882 واستباحوا حماها فنهض المصريون لمقاومتهم واختار الله أن يتم الجلاء على يد الثورة بعد 27 سنة من الاحتلال، واقترن الجلاء فى مصر بالجلاء عن السودان على يد الثورة، وبفضلها أيضاً صارت السودان دولة مستقلة نامية تتبوأ مركزاً رفيعاً فى المجموعة العربية.
وبدأت معارك فى الصحافة المصرية أفشلت مد الامتياز، فقد طالب الزعيم محمد فريد على صفحات "اللواء" بعرض الموضوع على الجمعية العمومية - التى كانت بمثابة برلمان صغير بدلا من الجمعية التشريعية التى قضى عليها الإنجليز بعد الاحتلال - ودعت الجمعية العمومية لمناقشة مسألة الامتياز فى 9 نوفمبر 1910 بينما مصر فى تلك الفترة والمد الوطنى فيها على أشده، لكن حكومة مصر تبنت مشروع المستشار المالى البريطانى حيث كان سعد زغلول فى تلك الفترة يمثل الحكومة المصرية ودافع عن مد مشروع الامتياز، لكن النائب إسماعيل أباظة تزعم حملة شديدة على الحكومة لمناهضة مشروع الامتياز وإفشاله. وانهار المشروع خاصة بعد قيام إبراهيم ناصف الوردانى باغتيال بطرس غالى باشا رئيس وزراء مصر لموافقته على الامتياز.
وهذه الرصاصات فى جسد بطرس غالى أفزعت المحتل البريطانى وأرهبت الخديو، وجعلت أعضاء الجمعية العمومية يرفضون المشروع الذى قدمه «إدوارد جدى» وزير خارجية بريطانيا.
وبعد الحرب العالمية الثانية تصاعد المد الوطنى فى مصر للمطالبة بجلاء القوات البريطانية، وكان لابد لبريطانيا مع هذا المد الوطنى أن تتفق مع صاحبة القناة التى كانت فى صحوة (عودة الروح)، وتجرى المفاوضات التى أدت إلى توقيع معاهدة 1936. وفى المفاوضات خولت مصر انجلترا حق إنشاء قواعد حربية فى منطقة القناة لحمايتها ولسلامة مرور السفن فيها. بمعنى أن حق الدفاع عن القناة قد انتقل إلى بريطانيا، التى حرصت على ذلك. وذلك من المادة الثانية فى معاهدة القاهرة التى تقول: "بما أن القناة هى جزء لا يتجزأ من مصر وهى طريقة عالمية للمواصلات بين مختلف أجزاء الامبراطورية البريطانية، فإنه إلى حين الوقت الذى يتفق فيه الطرفان المتعاقدان على أن الجيش المصرى أصبح فى موقع يستطيع فيه بموارده حماية القناة وحرية الملاحة فيها. يخول صاحب الجلالة ملك مصر (فاروق) لصاحب الجلالة ملك بريطانيا وضع قواته فى الأراضى المصرية فى منطقة القناة."
بعد معاهدة 1936 ظلت مصر غريبة عن القناة وكأنها ليست قناتها، بل إن مصر كانت تسدد عن سفنها التى تعبر القناة ذات الرسوم التى تسددها غيرها من الدول الأخرى، بل إن مجرد انتقال سفينة من ميناء إلى آخر من الموانئ المصرية كانت تسدد عنه الرسوم المقررة، وصارت شركة القناة دولة داخل دولة.
- ثورة23 يوليو
وحينما قامت ثورة 23 يولي 1952 كان لها مع البريطانيين والقناة موقف، وبالفعل تم توقيع اتفاقية الجلاء فى 16أكتوبر 1954، وفي21 يونية 1956 احتفلت مصر بجلاء أخر جندى بريطانى عن منطقة القناة.
بداية الصراع.
"داتينوس" والسد العالى
عقب الثورة جاء إلى مجلس قيادة الثورة رجل يونانى يعيش فى الإسكندرية يدعى (أدريان داتينوس) وقابل الرئيس جمال عبدالناصر وعرض عليه اقتراح إقامة سد على بعد 6 كيل مترات جنوب خزان السودان بارتفاع نح مائة متر، ويتسع لتخزين 165 مليار متر مكعب على منسوب 180 متراً، وذلك لزيادة الرقعة المزروعة بالقطر المصرى والاستغناء به عن كل مشروعات التخزين الأخرى، ولوقاية البلاد من غوائل الفيضانات العالية، ولتوليد قوة كهربائية هائلة يمكن استغلالها فى إقامة مشروعات تصنيع فى البلاد وتغنى عن مشروع كهربة خزان أسوان الحالي.
ولما سمع منه جمال عبدالناصر العرض، أخذه إلى المكتب الفنى فى مجلس قيادة الثورة، وقال للمهندس محمود يونس- عض مجلس الإدارة المنتدب لمعمل تكرير البترول الحكومى بالسويس -"الخواجة داتينوس مقدم لنا دراسة عن بناء سد عالٍ فى أسوان. أرج دراسة المشروع وإفادتي".
وتولى البكباشى المهندس سمير حلمى الموضوع، واستعان بالدكتور محمد أمين سليم رئيس قسم الرى بكلية الهندسة وأحد خبراء السدود العالميين، وشكلا لجنة من وزارة الأشغال والجامعة، ووضعت تفصيلات المشروع، وأصبح هذا المشروع من أهم المشروعات الحيوية لمصر،ومن ثم اتجهت مصر إلى واشنطن ولندن والبنك الدولى لمعاونتها فى تمويل المشروع.
عبدالناصر يرفض شروط الغرب
وفى أواخر سنة 1955 بدأت محادثات تمويل السد العالى مع البنك الدولى والولايات المتحدة وبريطانيا تدخل مرحلة حاسمة، وكان المشروع بأكمله سيتكلف ما يعادل ألف مليون دولار منها أربعمائة مليون دولار بالعملة الصعبة، وتعهد البنك الدولى بتقديم هذا المبلغ إذا تعهدت بريطانيا وأمريكا بتقديم النصف الثانى، أى أن ما كانت تطلبه مصر قرض قيمته 200 مليون دولار من الولايات المتحدة وبريطانيا، ليس منحة أ معونة، وإنما قرض. وبعد مفاوضات شاقة وطويلة تقدمت الولايات المتحدة وبريطانيا بعروض وشروط مجحفة تتضمن تدخلاً سافراً فى شئون مصر المالية وتوجيهاً لاقتصادها وتأثيراً فى سياستها، وكلها أمور لا يمكن لحكومة وطنية أن تقبلها بأى حال، وكان بناء السد العالى سوف يستغرق عشر سنوات وهذا يتيح للدول الغربية عشر سنوات من السيطرة الفعالة على شئون مصر، وقد تزيد!
وأحس عبد الناصر بأن قوى الغرب تسعى للسيطرة على اقتصاد مصر، واضعاً فى ذهنه ما حدث فى مصر فى عهد الخدي سعيد والخدي إسماعيل من ابتزاز وضياع استقلال مصر. فه إذا سلم بالشروط التى قدمها الغرب لبدء المرحلة الأولى من مشروع السد فإنه سوف يتعرض فى المرحلة الثانية لشروط أشد إجحافاً، ثم التسليم فى النهاية باستغلال مصر. ورفض عبد الناصر هذه الشروط رفضاُ باتاً.
وأخيراً وإزاء موقف مصر الحازم وبعد العرض السوفيتى قبل الغرب مشروع السد العالى دون شرط يخدش سياسة مصر أ كرامتها، وكان ذلك فى ديسمبر 1955.
وفى 18 فبراير1956 أعلن "يوجين بلاك" - مدير البنك الدولى - أنه تم الاتفاق على أن يقوم البنك الدولى بتمويل المشروع. ولكن الأحداث تطورت لتقلب الأوضاع رأسا على عقب،فكانت خطة "دالاس" شراء صلح بين مصر وإسرائيل فى مقابل بناء السد العالى فى أسوان. لكن دالاس بدأت حماسته تفتر وبدأ يحس بمرارة نح عبدالناصر نتيجة مواقفه من صفقة الأسلحة الروسية وحلف بغداد، وعدم موافقة عبدالناصر الصلح مع إسرائيل - وكان إيدن رئيس وزراء بريطانيا - آنذاك - قد أعلن حرباً شعواء على عبدالناصر بعد أن قام الملك حسين بطرد (جلوب باشا) الإنجليزى من قيادة الفيلق العربى الأردني، فقد ظن أن عبدالناصر وراء كل المتاعب التى تواجهها بريطانيا فى الشرق الأوسط.
وفى شهر مارس سنة 1956 مع انهيار صفقة شراء السلام مع إسرائيل استقر رأى "دالاس" على سحب العرض الأمريكي.، بل إن بريطانيا ضغطت على البنك الدولى ليسحب عرض تمويل السد العالى.
اللحظة الخالدة
وفى مساء يوم 26 يولي 1956 جاءت لحظة العمر. اللحظة الخالدة عندما وقف جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية ليعلن للعالم أجمع. أن مصر بعد أن تخلصت من الاستعمار البريطاني. وتتخلص اليوم من عملاء الاستعمار البريطانى. وتتخلص أيضاً من الاستعمار الاقتصادى، تتخلص من الشركة الفرنسية لقناة السويس، ثم أعلن عبدالناصر قرار تأميم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية. أعلنها باسم: مائة ألف من أجدادنا سقطوا شهداء على رمال القناة. وسقطوا فى طريق عودتهم من القناة. وأعلنها باسم الآلاف الذين شقوا القناة لأبنائهم وأحفادهم، حق مصر الذى اغتصبه المستقلون ومصاص الدماء!
أعاد عبد الناصر قناة السويس لأصحابها أبناء مصر من أجل بناء مصر ومن أجل غد ومستقبل مصر. واستحق منا كل التقدير وكل الاحترام.
ثم أعيد افتتاح القناة مرة أخرى فى 5 يونية 1975 واليوم الذى اختاره الرئيس الراحل أنور السادات ليمح ذكرى نكسة 1967 وإغلاق القناة لمدة ثمانى سنوات كاملة.
الجعران و(ق س)
اختير الجعران كرمز لشركة القناة، لأنه عند بدء حفر القناة كانت توجد كميات كبيرة منه فى منطقة الحفر. قد تم اختيار شعار جديد للشركة بعد تأميمها فى أول الأمر مؤقتاً، عبارة عن دائرة مكتوب فى داخلها (ق.س) باللون الأسود على الجعران، وبعد ذلك وضعت شارة (ق.س) على جميع وحدات ومطبوعات هيئة القناة، مع وضع شارة (ق.س) داخل دائرة باللون الأسود وتكون الأرضية باللون الأزرق، وبعد ذلك رفع الجعران نهائياً ولم يغير شعار قناة السويس ويبقى إلى الأبد.

ليست هناك تعليقات:

المشاركات الشائعة