إذاعة BBC

ابحث فى مدونتى

form method="get" action="/search" id="search">

الجمعة، 23 يوليو 2010














ثورة ‏23‏ يوليو بين ثورات المصريين
بقلم: د. طه عبد العليم
لم تستكن مصر ولا استسلمت أبدا في مواجهة الاحتلال الأجنبي‏,‏ ولم تنقطع مقاومتها الإيجابية أو السلبية‏.‏ ولا يجدر بنا أن ننسي أن مصر قد تمتعت بالاستقلال نحو سبعين في المئة من تاريخها‏.

‏كما بينت في مقال لدحض نظرية أن مصر أطول المستعمرات عمرا‏!‏ وحين تعرضت مصر للغزو والاحتلال كانت ثورات مصر والمصريين من أجل التحرر الوطني فاعلة ومثلت علامات تحول بارزة وأحيانا سباقة تاريخيا‏.‏ وتبدأ ثورات التحرير بثورة طيبة‏,‏ أول وأقدم ثورة للتحرر الوطني في التاريخ العالمي‏,‏ وتنتهي بثورة‏'‏ يوليو‏',‏ رائدة وملهمة ثورة التحرر الوطني من الاستعمار الحديث‏.‏

وتقول نظرية‏,‏ تكاد تكون غالبة‏,‏ إن مصر كانت تتخذ موقفا سلبيا بدرجة أو بأخري من الغزاة الطامعين فيها‏,‏ فلا يكاد يبدي المصريون مقاومة تذكر‏,‏ إن لم يقفوا متفرجين علي صراع الغزاة فيما بينهم علي أرضهم في انتظار نتيجة التصفية‏!‏ وتضيف أنهم كانوا أحيانا يرحبون بغاز جديد أو يتركونه ليطرد غازيا قديما‏,‏ بحيث لم يكن لهم هم أنفسهم دور أو فضل كبير بصفة خاصة في التحرير‏.‏

يقول البعض بأن مصر كانت مستقلة تحت حكام أجانب في بعض فترات العصر الإسلامي‏,‏ ولكن لم يكن كذلك المصريون‏.‏ بل نري عاشقا لمصر هو حسين فوزي يقول في مؤلفه الرائد‏'‏ سندباد مصري‏':‏ إن مصر طوال ألفي سنة تحولت إلي قوة منزوعة السلاح وإلي شعب أعزل‏,‏ حين انتزع الحكام الأجانب كالمماليك المرتزقة والأتراك وظيفة الحرب لأنفسهم‏,‏ فانصرفت هي إلي صناعة الحضارة وانصرفوا إلي صناعة الحرب‏,‏ وأن مصر كانت‏'‏ وعاء القوة‏'‏ ولكنها لم تكن‏'‏ أداة القوة‏',‏ حيث كانت قوة ضاربة ولكن في يد غيرها‏;‏ أي كانت مصر‏'‏ مطرقة قوة‏'‏ ضخمة ولكن لم تكن‏'‏ اليد الضاربة‏'!‏

ويتصدي جمال حمدان لهذه النظرية الباطلة‏,‏ مؤكدا أن تاريخ مصر والمصريين كان سجل صراع طويل وحافل ترصعه انتفاضات شعبية متواترة‏,‏ قد تفصل بينها فترات اعتراضية من الصبر المتربص‏,‏ ولكنها قد تتحول أيضا في حالات إلي انفجارات وثورات‏.‏ ويقول العالم الفرنسي ماسبيرو في مؤلفه‏'‏ نضال الأمم‏'‏ إن ثورات التحرير الوطنية المصرية لم تنقطع منذ بسط الاستعمار الفارسي نفوذه علي مصر‏,‏ وسجلت ثلاث انتفاضات خطيرة خلخلت قبضة الفرس كثيرا‏,‏ واستطاعت ثلاث أسر مصرية مستقلة أن تنشأ خارج أو داخل الوجود الفارسي‏,‏ معاصرة أو مصارعة له‏.‏ وشهد العصر الروماني كثيرا من الفورات الشعبية‏,‏ ولعبت الكنيسة القبطية والرهبنة دورا هاما بالمقاومة الإيجابية والسلبية علي السواء‏.‏

وفي العصور الوسطي‏,‏ في ظل العصر التركي المملوكي‏,‏ غدت الانتفاضات والمواجهات والثورات تيارا متقطعا ولكنه لا ينقطع‏,‏ حيث تعددت بين ثورات الريف وثورات المدن في الدلتا والصعيد وفي العاصمة‏..‏ إلخ‏.‏ ويسجل جمال حمدان أنه من الصحيح أن أكثر هذه الثورات لم يزد علي أن يكون مجرد هبات أو‏'‏ هوجات‏'‏ وتمردات‏,‏ عاجزة فاشلة‏,‏ وبعضها كان محض دفاع عن النفس في وجه غياب وانهيار السلطة المركزية المملوكية‏.‏ لكن الصحيح أيضا‏_‏ كما يستدرك صاحب‏'‏ شخصية مصر‏'-‏ أن الكثير منها كان مواجهات دامية مع الطغيان‏,‏ نجحت في كسر وتقييد الاستبداد وإن نسبيا‏,‏ وأرغمت الحكام الأجانب علي تقديم تنازلات هامة‏.‏

وفي الصراع ضد الاحتلال العثماني والحكم المملوكي كثيرا ما كانت الجماهير تلجأ إلي علماء الأزهر مثقفي العصر‏,‏ كقيادة شعبية أو كضاغط علي الحكم‏,‏ خاصة قبيل الحملة الفرنسية وبعدها‏.‏

وقد تمكن المصريون في النهاية من عزل الوالي العثماني وفرض بديله محمد علي‏,‏ في حدث جسد ثورة شعبية حقيقية قادها الزعيم المصري عمر مكرم وهزت المجتمع المصري‏,‏ وحققت عملية تتويج محمد علي مقولة الجبرتي‏-‏ رغم ما بها من مبالغة‏,‏ كما يتحفظ وبحق جمال حمدان‏-‏ بأنه‏:'‏ جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة‏..‏ حتي الخليفة والسلطان‏,‏ إذا سار فيهم بالجور‏,‏ فإنهم يعزلونه ويخلعونه‏'!‏

والنظرية التي تسم المصريين بالسلبية‏,‏ إن لم تكن منحرفة أو متحيزة‏,‏ لا يمكن إلا أن تكون جزئية أو مبتسرة علي الأقل‏,‏ لأنها تتناسي حالات المقاومة العنيدة العنيفة والدموية بالعشرات المتمثلة في الثورات والانتفاضات والصدامات مع الجميع‏.‏

فلم يحدث أن دخل مصر غاز أجنبي أو أقام بها كنزهة عسكرية بلا ثمن باهظ من الدماء والخسائر الفادحة‏,‏ بل والانكسارات المحققة أحيانا‏.‏ والمقاومة الوطنية المستبسلة والمصرة هي‏,‏ مثلا‏,‏ التي طردت أول غزاة لمصر من البر بقيادة أحمس الأول‏,‏ وأول غزاة لها من البحر وهم شعوب البحر بقيادة رمسيس الثالث‏,‏ كما بينت في مقال سابق لدحض نظرية أن المصريين شعب غير محارب‏!‏

ثم بعد ذلك‏-‏ كما يلخص صاحب شخصية مصر‏-‏ تبرز ظاهرة نضالية معينة تتكرر تحت كل استعمار بإلحاح‏;‏ كأنها اللحن المميز‏:‏ صراع دموي قاس رهيب وواسع النطاق للغاية بين المصريين والمحتل الأجنبي‏,‏ يتخذ شكل ثورتين أو ثلاث علي الأقل في كل حالة‏,‏ أو سلسلة من التمردات العسكرية وحركات العصيان‏.‏ وكثيرا ما يضطر الإمبراطور المستعمر إلي القدوم بنفسه لإخماد المقاومة دون جدوي غالبا‏,‏ بل وأحيانا ما كان الحاكم المحلي يقتل فيها أو يطرد طردا‏,‏ هذا فضلا عن مجموعة إمارات مستقلة يقتطعها التحرير الوطني خارج نطاق الاحتلال‏.‏

حدث هذا خلال كل من الاحتلال الليبي والإثيوبي والأشوري والفارسي‏,‏ وكذلك تحت البطالمة واحتلال الرومان‏,‏ بل وحتي تحت حكم العرب كما حدث في ثورة المصريين في عهد الخليفة المأمون‏,‏ وقتال أهل تنيس لجند المعز الفاطمي‏'‏ قتالا شديدا‏'‏ كما سجل المقريزي‏.‏ وفيما بعد كانت المقاومة الوطنية هي التي ألقت بحملة فريزر الإنجليزية في البحر‏,‏ وبفضل ثورة المصريين وكفاحهم المسلح قبل أي شيء طردت حملة نابليون الفرنسية‏.

وتتناسي نظرية سلبية المصريين المزعومة أين ذهب غزاة مصر‏:‏ لقد بادوا أو ذهبوا‏,‏ وبقيت مصر‏!‏ فبقوة حيويتها‏,‏ وبقدرة نادرة علي الامتصاص‏,‏ ابتلعتهم بالتدريج في جسمها الكبير‏,‏ حتي انتهي الأمر بالمنتصر عسكريا إلي الهزيمة البشرية بينما خرجت هي مقبرة الغزاة المثالية‏,‏ أكبر مقبرة للغزاة‏.

ولقد يرد أعداء مصر قائلين‏:‏ لقد فقدت استقلالها في مقابل بقائها‏!‏ ولكن هذا بدوره مردود عليه‏!‏ فالقدرة علي امتصاص الصدمات‏,‏ كما يؤكد جوبليه‏,‏ هي المقياس الحقيقي الوحيد لحيوية الشعوب والدول‏.‏ وقد كان المصريون قوة صامدة صابرة وكتلة صماء صلبة غير منفذة للأجنبي بسهولة‏;‏ وعلي هذه الصخرة بالذات تحطمت الغزوات أو تآكلت‏!‏

وتبقي نظرية باطلة أخري تزعم أن المصريين يتصفون بمتناقضة محيرة هي سهولة الانقياد والخضوع للحاكم الوطني وبين الصلابة النادرة والشجاعة في مواجهة الإستعمار الأجنبي‏.‏ وهذه نظرية تستحق إطلالة لاحقة‏,‏ لابد وأن تختتم بانصاف ثورة يوليو رغم إخفاقاتها‏!‏

** نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية

ليست هناك تعليقات:

المشاركات الشائعة