احتلال مصر بسبب قرش تعريفه
في سنة 1882 كانت بريطانيا مبيتة العزم لاحتلال
مصر، ولتحقيق النجاح فيما فشلت فيه قبلها بخمسة وسبعين سنة، كانت تلعب في أكثر من
اتجاه؛ الاتجاه الأول: تهيئة المجتمع الدولي لتقبل احتلالها لمصر خاصة منافستها
فرنسا، الاتجاه الثاني: تحييد موقف السلطان العثماني، فرغم أنه كان لا بيصد ولا
بيرد، لكنه كان نظريًا صاحب الحق "الشرعي" في حكم مصر رسميًا منذ احتلال
سليم الأول العثماني لها سنة 1517، الاتجاه الثالث: السيطرة على الخديوي الجديد
الذي كان قد سلم أوراق اللعبة بالكامل لانجلترا وفرنسا منذ اليوم الأول لتوليته
حكم مصر، لأنه كان يجد فيهما الحماية من شعبه، الاتجاه الرابع والأهم: البحث عن
حجة للتدخل العسكري في مصر التي كانت تديرها حكومة وطنية، حجة في شكل أزمة تظهر فيها
تلك الحكومة الوطنية أمام العالم على أنها عاجزة عن إدارة شئون البلاد وتقودها نحو
الفوضى، وبالطبع قبل ذلك وبعده كان هناك تحركات الأسطول البريطاني بالقرب من
الشواطئ المصرية، ومن باب إشعار فرنسا بأنها شريك فقد اعتمد التكتيك البريطاني على
أن تكون التحركات مشتركة مع الأسطول الفرنسي.
السلطان عبد الحميد الثاني الخديوي إسماعيل الخديوي توفيق
كان الكل يلعب على الساحة المصرية، واللعب كله
يصب في مصلحة بريطانيا، الخديوي المعزول إسماعيل باشا يرتب المؤامرات بالتعاون مع
الضباط الشراكسة الخصوم التقليديين للعرابيين، والخديوي توفيق يفتعل المشاكل مع
الحكومة الوطنية ويتعدى على سلطاتها المنصوص عليها في الدستور مستقويًا بإنجلترا
وفرنسا ويسعى لشق صفوف الحركة الوطنية، والسلطان العثماني يعك الدنيا بارتباكه
وضعفه، ويلعب لصالح إنجلترا متصورًا أنه يستعيد نفوذه في مصر الذي فقده تدريجيًا
منذ عصر محمد علي، والعرابيون مرتبكون مترددون يرتكبون الخطأ وراء الخطأ ويضيعون
الفرصة وراء الفرصة، تنصب لهم الفخاخ من كل جانب فيقعون فيها المرة بعد المرة.
في أواخر مارس 1882 انتهت دورة مجلس النواب الذي
قدم نموذجًا لحياة برلمانية مكتملة الأركان، تؤكد نضج الوعي السياسي في مصر منذ
أكثر من قرن وربع القرن وعدم حاجته إلى وصاية الأوصياء، لكن فترة العطلة
البرلمانية شهدت أزمة في الجيش أمتد تأثيرها إلى البلاد كلها، عندما أكتشف
المسئولون مؤامرة خطط لها بعض الضباط
الشراكسة بقيادة عثمان باشا رفقي ناظر الحربية السابق، لاغتيال أحمد عرابي وعدد من
القادة العسكريين الوطنيين وبعض الوزراء، وشكل عرابي باعتباره ناظرًا للحربية مجلس
تحقيق عسكري برئاسة الفريق راشد باشا حسني الشركسي المعروف بنزاهته واعتداله، كما
قال المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، وقد تعمد أن يكون رئيس المجلس شركسيًا حتى يكون
التحقيق خاليًا من الأغراض. وانتهى التحقيق بإدانة المتآمرين وعددهم أربعين،
والحكم عليهم بالعزل والنفي إلى السودان مع التجريد من رتبهم، وبدأت الأزمة مع رفض
الخديوي التصديق على الحكم، وطلب المشورة من إنجلترا وفرنسا، ورفع الأمر إلى
السلطان العثماني، الأمر الذي اعتبرته الحكومة الوطنية إهدارًا لاستقلال مصر،
وطلبت دعوة مجلس النواب، فرفض الخديوي دعوته، فدعته الحكومة للاجتماع بصورة غير
رسمية، وبدأ الانقسام في صفوف الحركة الوطنية فرأى البعض ضرورة عزل الخديوي ـ
وليتهم فعلوا ـ لكن جناح آخر بزعامة سلطان باشا رئيس مجلس النواب رأى العمل على حل
النزاع بشكل ودي حفاظًا على وحدة البلاد، وللأسف انتصر هذا الرأي في النهاية.
وكان الخلاف بين الحكومة والخديوي الحجة التي
بررت بها إنجلترا القيام بمظاهرة بحرية بالاشتراك مع فرنسا في المياه الإقليمية
المصرية، وفي 25 مايو 1882 بعثت إنجلترا وفرنسا بمذكرة رسمية إلى محمود سامي
البارودي رئيس مجلس النظار تطالبانه فيها بالاستقالة وإبعاد عرابي عن مصر مؤقتًا
وإبعاد اثنين من قادة الثورة عن العاصمة مؤقتًا هما علي باشا فهمي وعبد العال باشا
حلمي، وبالطبع رفضت الحكومة الوطنية مطالب الدولتين، لكن الخديوي توفيق قبلها، فقد
كانت هذه المطالب غاية ما يتمناه. وكان رد فعل الحكومة على قبول الخديوي للمذكرة
الثنائية الاستقالة في 26 مايو 1882، لقد تعاملت الوزارة الوطنية وفقا للمبادئ
البرلمانية في الدول العريقة، لكنها بذلك حققت غرض إنجلترا وفرنسا، وغرض الخديوي
المعادي للدستور وللحركة الوطنية. وباستقالة وزارة محمود سامي البارودي أخذت
الأحداث تتصاعد بسرعة نحو اللحظة المحتومة لحظة الاحتلال البريطاني لمصر.
ترك الخديوي البلاد بلا حكومة لمدة أسبوعين،
وحاول عرابي ورفاقه مرة أخرى عزل الخديوي الخائن بدعوة مجلس النواب والعلماء
للاجتماع لمناقشة الأمر، لكن الانقسام كان قد بدأ يدب في صفوف الحركة الوطنية بين
جناح متشدد يرى أن الأمور يجب أن تسير إلى منتهاها ويتم عزل الخديوي، بل وصل البعض
إلى المطالبة بالجمهورية، وجناح معتدل يرى ضرورة "لم الشمل"
و"توحيد الصف" خوفًا من الاحتلال الأجنبي الذي كان شبحه يخيم على
البلاد.
ظلت الأوضاع معلقة إلى يوم 11 يونيو 1882 عندما
وقعت خناقة بين حمّار سكندري وتاجر مالطي على أجرة الحمار، المالطي دفع قرش صاغ
بعد أن لف بالحمار إسكندرية كلها من الصبح لأخر النهار والحمّار عاوز تلاته
تعريفه، تصاعدت الخناقة إلى أن طعن المالطي الحمار بسكين فقتله، وهاجت إسكندرية
كلها، وانطلق التطرف الممقوت من القمقم وأخذ الأهالي يقتلون الأجانب عمال على
بطال، والأجانب يردون بالسلاح الناري في المليان، فسقط العشرات قتلى من الجانبين، وأسرع
الخديوي بتشكيل الحكومة رغم أنفه برئاسة إسماعيل باشا راغب المقبول من العرابيين،
ووجدت إنجلترا الحجة لتضرب سفن أسطولها ـ بعد ابتعاد الأسطول الفرنسي ـ الإسكندرية
وتنزل قوتها على أراضيها، بعد شهر بالتمام والكمال من خناقة المالطي مع السيد
العجان الحمّار، لتبدأ يوم 11 يوليو 1882 أولى خطوات الاحتلال العسكري البريطاني
بسبب قرش تعريفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق