رقم المشاركة : 3 | ||||
رد: قصة الحروب الصليبية
دخول الفاتح - رحمه الله - القسطنطينية
أما القرن التاسع الهجري = الخامس عشر الميلادي - فقد شهد إستمرارًا لحروب العثمانيين ضد البيزنطيين ، وتُوِّجت هذه الحروب بانتصار مهيب ، حيث فتحت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ = 1453م ؛ مما فتح الطريق للمسلمين لينساحوا في شرق أوربا . ومع هذا السرور العظيم الذي نَعِمَ به العالم الإسلامي على الجبهة الشرقية للنزاع بين المسلمين والنصارى ، إلا أن القرن التاسع الهجري = الخامس عشر الميلادي - شهد حادثًا مؤسفًا جدًّا ، وهو سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس ، وبالتالي خروج المسلمين بالكُلِّيَّة من الأندلس بعد أكثر من 8 قرون، وذلك في سنة 897هـ = 1491م . عبدالله الأحمر يُسلم مفاتيح غرناظه لإيزابيلا وفرديناند - زفرة العربي الأخيره ! ورغم محاولات الدولة العثمانية لنجدة المسلمين في الأندلس إلا أن محاولتهم باءت بالفشل ؛ لإنشغال العثمانيين بالحروب مع شرق أوربا من جهة ، والصفويين الشيعة في إيران من جهة أخري . أما القرن العاشر الهجري = السادس عشر الميلادي = فكان عثمانيًّا خالصًا ؛ إذ وصلت الفتوحات العثمانية الإسلامية إلى منتصف أوربا تقريبًا ، وإستطاع العثمانيون في عهد سليم الأول وسليمان القانوني أن يضما معظم أملاك الدولة البيزنطية إلى المسلمين ، وبذلك دخلت اليونان وألبانيا ويوغوسلافيا والمجر وبلغاريا في نطاق الدولة الإسلامية ، ووصلت الجيوش الإسلامية إلي فيينا عاصمة النمسا ، وقَبِل ملك النمسا آنذاك أن يدفع الجزية للمسلمين . وفي هذا القرن حاول الأسبان والبرتغال إحتلال دول شمال إفريقيا إلا أن المحاولات لم تكن ناجحة في الأغلب ، اللهم إلا نجاح الأسبان في انتزاع سبتة ومليلة من المغرب سنة 987هـ = 1580م - وبقائهما تحت الاحتلال حتى الآن ! وفي القرن الحادي عشر الهجري = السابع عشر الميلادي - بدأ التقلص العثماني في أوربا ، واستطاعت بعض الدول الأوربية الانتصار على الدولة العثمانية في عدة لقاءات .. وعلى الساحة الغربية كان التفوق الإسباني والبرتغالي ملحوظًا ، وإن كان التفوق الهولندي كان أشدَّ وأكثر . أما القرون الثلاثة التالية وهي القرن 12 و 13 و 14 الهجرية (18 و 19 و 20 الميلادية - فقد كان التفوق الصليبي واضحًا، وبدأت الدولة العثمانية في التقلص التدريجي تحت ضربات إنجلترا وفرنسا من ناحية ، وروسيا من ناحية أخرى ، وسقطت معظم دول العالم الإسلامي تحت الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني والهندي ، وكذلك اليهودي في فلسطين بمساعدة الإنجليز . ثم شهد منتصف القرن 14 الهجري = منتصف القرن 20 - موجة تحرر واسعة النطاق في العالم الإسلامي ، بدأت في لبنان سنة 1360هـ = 1941م ، ثم سوريا 1362هـ = 1943م ، ثم ليبيا 1370هـ = 1951م ، ثم مصر 1371هـ = 1952م ، وهكذا تتابعت الدول الإسلامية في التحرر حتى لم يبق إلا فلسطين ، وسبتة ومليلة في المغرب ، هذا فضلاً عن الدول المحتلة من دول غير نصرانية ، كالدول المحتلة من الاتحاد السوفيتي أو الصين أو الهند . ثم كانت الهجمة الصليبية الأخيرة على العالم الإسلامي ؛ حيث إحتلت الصرب البوسنة سنة (1412هـ = 1992م - ثم تحررت سنة 1415هـ = 1995م ، ثم إحتلت أمريكا أفغانستان سنة 1421هـ = 2001م ، ثم العراق سنة 1422هـ = 2003م . وهكذا رأينا أنه منذ أيام البعثة النبوية الأولى وحتى أيامنا هذه لم تتوقف أبدًا حلقات الصراع الإسلامي- النصراني ، ولم يكن هناك عَقْد - فضلاً عن قرن - خلا من معارك ونزال ، وهذا أمر ليس مستغربًا ؛ حيث قال تعالى في كتابه الكريم : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ، وقال أيضًا: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ إسْتَطَاعُوا . وهكذا باستعراض هذه الحلقات نعرف أن قصة الحروب الصليبية التي نحن بصددها ليست قصة مستغربة ، بل إن المستغرب فيه حقيقة ألا توجد فترة فيها تصادم وتصارع .. ومع عدم رغبتنا في الصدام أو الصراع إلا أنه سنةٌ من سنن الكون ، ذكرها ربُّنا سبحانه وتعالى في كتابه حين قال : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين .
العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية
في القرن الرابع الهجري وفي النصف الأول من القرن الخامس الهجري ، كان العالم الإسلامي كله إلا قليل القليل ، واقعًا تحت سيطرة المذهب الشيعي .. ففي منطقة العراق كانت هناك الخلافة العباسية السُّنية ، ولكنها دخلت في طورٍ شديد من أطوار الضعف ؛ مما جعلها تقع فريسة للسيطرة الشيعية من بني بويه , الذين كانوا يسيطرون على فارس في ذلك الوقت ، وإستمرت هذه السيطرة حتى منتصف القرن الخامس الهجري . وإلى الشرق من الخلافة العباسية وإيران حيث أقاليم آسيا الوسطى، كان السامانيون يسيطرون على شرق إيران ومنطقة أفغانستان وجنوب روسيا وما حولها ، أما الجزيرة العربية فكانت تحت حكم القرامطة . ثم في وسط العالم الإسلامي وغربه كانت الدولة الفاطمية العبيدية الشيعية الإسماعيلية تسيطر على أرجاء واسعة ؛ حيث سيطرت على مصر سنة 358هـ = 969م ، وظلت مسيطرة عليها قرابة قرنين كاملين من الزمان ، وإمتدت سيطرتها بعد ذلك لتشمل أرض فلسطين والشام والجزيرة العربية . وفي أوائل القرن الخامس ظهرت قوة جديدة على الساحة الإسلامية ، هي قوة الأتراك السُّنَّة القادمين من وسط آسيا ، وهم أكثر من قبيلة ، وإن كان يجمعهم العرق التركي .. وكان أبرز هذه القبائل هي قبيلة الغزنويين الأتراك ، الذين إستغلوا حالة الضعف التي إعترت دولة بني بويه وكذلك آل سامان ، فبدأت تنتشر وتسيطر على مناطق شرق إيران وأفغانستان والهند . ثم ظهرت قبيلة أخرى من قبائل الأتراك هي قبيلة السلاجقة - نسبة إلى جَدِّهم سلجوق بن دقاق ، وتوغلت هذه القبيلة في إقليم خراسان ، وصارت تحت تبعية الغزنويين فترة من الزمان ، إلا أنهم في النهاية قاموا بالثورة عليهم ، واستقلوا بإقليم خراسان = شرق وشمال إيران - تحت قيادة طغرل بك ، وكان ذلك في 428هـ = 1037م ثم أخذ السلاجقة في التوسع على حساب القوى الإسلامية المحيطة ، وكذلك على حساب الدولة البيزنطية التي كانت قد دخلت في القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي - في طور من أطوار ضعفها ، وبذلك شملت دولة السلاجقة مساحات واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينية وآسيا الصغرى ، ثم حدث تطور خطير في سنة 447هـ = 1055م ، حيث إستنجد الخليفة العباسي القائم بأمر الله بطغرل بك لينجده من سيطرة بني بويه الشِّيعة ، وبالفعل دخل طغرل بك بغداد في سنة 447هـ ، ليبدأ عهد السيطرة السلجوقية على الخلافة العباسية ، ولا شكَّ أن هذا أعطى مكانه كبيرة لطغرل بك في العالم الإسلامي السُّني ؛ مما أدى إلي توحيد أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سيطرته ، خاصةً فارس والعراق وأجزاء من الشام وآسيا الصغرى ، وكانت هجمات السلاجقة متوالية على منطقة آسيا الصغرى ؛ مما أزعج الدولة البيزنطية جدًّا ، على الرغم من أن هذه الهجمات لم تكن منظمة بشكل كبير ، ولم تكن تستهدف الاستقرار في آسيا الصغرى . وفي سنة 455هـ = 1063م - تُوفِّي طغرل بك ليخلفه القائد الإسلامي الفذُّ ألب أرسلان ، الذي غيَّر كثيرًا من سياسة السلاجقة في آسيا الصغرى ، حيث أصبحت تستهدف البقاء والسيطرة على الأراضي البيزنطية والأرمينية ، وأدى ذلك إلى نشوب معركة كبرى بين السلاجقة والدولة البيزنطية، وذلك في سنة 463هـ = 1071م - وهي معركة ملاذكرد = مانزكرت - وهي من أقوى المعارك في تاريخ المسلمين ، حيث استطاع السلاجقة بقيادة ألب أرسلان وبجيش قوامه عشرون ألفًا فقط ، أن يهزموا جيش الدولة البيزنطية المكوَّن من أكثر من 200 ألف جندي بقيادة رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية . وكان جيش الدولة البيزنطية مكوَّنًا من خليط من الجنود البيزنطيين والجنود النورمان الإيطاليين المرتزقة ، وكذلك من جنود غربيين مرتزقة ، إضافةً إلى فرق من التركمان الآسيويين ، وقد سُحِق الجيش البيزنطي في هذه المعركة ، وقُتل منه عشرات الآلاف ، وأسر رومانوس الرابع نفسه ، وتمَّ فداؤه بمليون دينار ، إضافةً إلى إطلاق سراح كل أسرى المسلمين لدى الدولة البيزنطية ، وإنهارت الدولة البيزنطية في منطقة آسيا الصغرى ، وأصبح دورها في حماية البوابة الشرقية لأوربا دورًا مشكوكًا فيه ؛ مما أقلق النصارى في غرب أوربا جدًّا ، ولعل هذا من الأمور التي مهَّدت للحروب الصليبية بعد ذلك , بعد 25 سنة فقط من ملاذكرد ! وإنشغل ألب أرسلان بتثبيت دعائم دولته الكبرى ، وإهتم بالمنطقة الشرقية بصورة أكبر ، ولكن سرعان ما قُتِل في أحد معاركه في بلاد ما وراء النهر بعد ملاذكرد بسنة واحدة في 464هـ = 1072م ، ليخلفه إبنه ملكشاه الذي حكم من سنة 465 إلى سنة 485هـ =1072 إلى 1092م - ووصلت دولته من الصين شرقًا إلى بحر مرمرة غربًا ، وهي الدولة التي عرفت بدولة السلاجقة الكبري .. وعلى الرغم من هذا الاتساع الضخم إلا أنه - للأسف - فإن القاعدة الأصيلة تقول : إنه عند إنفتاح الدنيا وإتِّساع الأملاك ، يحدث التصارع والتنافس بين الإخوة ؛ وهذا مصداق حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم : "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" . وقد حدث التنافس بين أبناء البيت السلجوقي ؛ مما أدى إلى انقسام الدولة إلى خمسة أجزاء ، بل وكان في داخل كل جزء عدة انقسامات أخرى ، مما أعطى طابع الفُرقة والتشتُّت في أواخر القرن الخامس الهجري = أواخر القرن الحادي عشر الميلادي - وهي الفترة التي شهدت الحركة الصليبية الغربية . وعلى هذا ، فبالنظر إلى حال الأمة الإسلامية في هذا التوقيت ندرك يقينًا أن الأمة ستقع في أزمة كبيرة .. وتعالَوْا نلقي نظرة سريعة على الإمارات والدويلات الموجودة في ذلك الوقت ، لنفهم بعد ذلك ، لماذا اختار الصليبيون هذا التوقيت خصوصًا لغزو العالم الإسلامي ؟ ولماذا اختاروا هذه البقاع خاصَّةً ؟! . لقد حدث صراع كبير بين السلاجقة الذين كانوا يعيشون في منطقة الأناضول = آسيا الصغرى - بقيادة سليمان بن قتلمش ، وبين السلاجقة الذين يعيشون في الشام بقيادة تتش بن ألب أرسلان ويعاونهم سلاجقة فارس ، وكان هذا الصراع في سنة 478هـ = 1086م ، ونتج عن هذا الصراع مقتل سليمان بن قتلمش ، وهو أقوى ملوك السلاجقة الروم ؛ مما أدى إلى فراغ سياسيٍّ ضخم في آسيا الصغرى ، خاصةً أنه ترك ولدًا صغيرًا على ولاية عهده هو قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش ، وبالتالي تفككت منطقة آسيا الصغرى إلى عدة دويلات صغيرة منفصلة ، بل ومتناحرة . وكان من الآثار السيئة الأخرى لهذا الصراع أن فَقَد سلاجقة الروم وسلاجقة الشام أي ثقة في التعاون والاتحاد، وكان لهذا أشد الأثر في انهيار المقاومة أمام الصليبيين بعد ذلك ، وهكذا صار ملك السلاجقة موزَّعًا على الصورة الآتية في نهاية القرن الخامس الهجري : أولاً : دولة السلاجقة الكبرى وهي التي خلفها ملكشاه الأول ، وظلت تحكم أقاليم واسعة أهمها العراق وإيران ، وكانت لها السيطرة المباشرة على الخلافة العباسية ، وهذه كان بها صراعات داخلية ، وإن كانت ظلت متماسكة إلى حدٍّ ما ، وكان يحكمها خلفًا لملكشاه ابنه الأكبر بركياروق ، وقامت ضده عدة ثورات من أقاربه وأعمامه ، ولكنه ظل حاكمًا حتى وفاته 498هـ = 1104م .. ثانيًا : بيت سلاجقة كرمان = جنوب إيران ومنطقة باكستان - وهم عشيرة قاروت بك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ، وهو أخو القائد الكبير ألب أرسلان . ثالثًا : سلاجقة عراق العجم وكردستان (في شمال العراق) . رابعًا : سلاجقة الشام ، وهم بيت تتش بن ألب أرسلان ، وهؤلاء إنقسموا على أنفسهم عدة انقسامات ، وفتَّتوا الشام إلى عدة إمارات . خامسًا : سلاجقة الروم بآسيا الصغرى ، وهم بيت قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق ، والذي كان أكبرهم سليمان بن قتلمش أقوى ملوكهم ، الذي قُتل سنة 478هـ . ونتيجة هذه الصراعات المتتالية صار الوضع مزريًا قبيل دخول الجيوش الصليبية إلى أرض المسلمين . ففي أرض الشام صارت حلب إمارة مستقلة تحت زعامة رضوان بن تتش، وصارت دمشق أيضًا إمارة مستقلة تحت حكم دقاق بن تتش، أما فلسطين فقد كانت تحت حكم سقمان وإيلغازي أولاد أرتق التركماني ، وهو أحد القادة الذين كانوا يتبعون تتش بن ألب أرسلان .. ثم إن الدولة العبيدية الفاطمية - التي كانت تحكم مصر آنذاك - كانت متفوقة في أسطولها البحري عن السلاجقة ؛ مما مكَّنها من السيطرة على موانئ الشام ، وأهمها صور وصيدا وعكا وجبيل ، غير أن ميناء طرابلس كان إمارة مستقلة تحت حكم إبن عمار أبي طالب ، وهو من الزعماء الشيعة المنشقِّين عن الدولة العبيديّة . فكان هذا هو حال الشام ! وهي المنطقة التي ستوجَّه إليها الحملات الصليبية القادمة . ولم يكن حال آسيا الصغرى بأفضل من حال الشام ، وخاصةً بعد مقتل سليمان بن قتلمش سنة 478هـ = 1086م ، وكان السلطان ملكشاه قد أخذ إبن سليمان بن قتلمش وهو قلج أرسلان إلى فارس تحت رقابته ، غير أنه عند وفاة ملكشاه وولاية ابنه بركياروق أطلق سراح قلج أرسلان ليصبح بذلك زعيم السلاجقة الروم ، وإن لم يتمكن من السيطرة على كل آسيا الصغرى .. ولا يخفى على أحد أنه كان لا يمتلك الخبرة الكافية لهذه المهمة الكبيرة ، وهي قيادة منطقة تموج بالمشاكل والفتن ، سواء من المسلمين أو من غير المسلمين ؛ فالمشاكل الداخلية بين الأتراك ، والمشاكل مع سلاجقة الشام كانت مستمرة ومستعرة ، إضافةً إلى وجودها إلى جوار الدولة البيزنطية العدو اللدود والتقليدي للمسلمين على مدار خمسة قرون متتالية . ثم إن آسيا الصغرى لم تكن وحدة واحدة ، فأزمير مثلاً كانت تحت إمرة زاخارس ، بينما كانت هناك إمارة الدانشمند ، وهي إمارة أسسها أمير تركماني اسمه أحمد غازي ، وكانت تشغل الشمال الشرقي من آسيا الصغرى ، وكانت على خلاف مستمر مع السلاجقة في آسيا الصغرى، ومن ثَمَّ كان التحالف بينهما نادرًا ما يحدث، وفي ظروف ضيقة جداً . وليس هذا فقط، فقد شهدت سنة490هـ توسُّعًا بيزنطيًّا في غرب آسيا الصغرى ، وإستولت على الجهات الساحلية في نيثنيا وأبونيا ، ومما زاد الموقف تعقيدًا في آسيا الصغرى وجود أعداد كبيرة من الأرمن كانوا يعيشون في دولتهم في هذه المنطقة منذ فترات طويلة ، لكن الدولة البيزنطية ضمت أرمينيا إلى أملاكها في القرن الرابع الهجري ، لكن مع توسع السلاجقة في القرن الخامس الهجري في آسيا الصغرى على حساب أملاك الدولة البيزنطية إجتاح السلاجقة الكثير من أقاليم أرمينيا ؛ مما جعل الأرمن يهاجرون إلى الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى حيث الطبيعية الجبلية الصعبة في إقليم قليقية، كما تركزوا في ثلاث مناطق أخرى متفرقة هي ملطية والرُّها وأنطاكية ، مع العلم أن هذه المناطق الثلاثة الأخيرة كانت تجمعات بيزنطية قديمة ، ومن ثَمَّ أصبحت خليطًا من الأرمن الكاثوليك والبيزنطيين الأرثوذكس ، غير أن سليمان بن قتلمش إستطاع ضم أنطاكية لحكم السلاجقة سنة477هـ وتسرب إليها المسلمون ليعيشوا فيها جنبًا إلى جنب مع البيزنطيين والأرمن ، وكذلك الرها فقد سيطر عليها ملكشاه ، لكنه أقر على حكمها أحد الأرمن وهو ثوروس مع دفع الجزية ونفس الأمر حدث في ملطية فقد سيطر عليها أحد رجال الأرمن يُدعى جبريل، وكان كذلك يعلن الولاء للسلاجقة . ومن هنا نرى أن هذا الوجود الأرمني المكثف جعل الأمور غير مستقرة وغير آمنة في هذه المناطق الثلاثة ، إضافةً إلى إقليم قليقية في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى ، وهذا كله سيكون له آثار مباشرة في نجاح الحملة الصليبية الأولى كما سيتضح لنا . وهكذا نرى أن التركيبة السكانية الصعبة في آسيا الصغرى والمكوَّنة من سلاجقة وأرمن وبيزنطيين ، والتفتُّت الواضح في مراكز الحكم ، والعلاقات السلبية بين الطوائف المختلفة ، والتوتر الشديد مع المناطق المحيطة ، كل هذا أدَّى إلى وضع معقد جدًّا في هذه المناطق ، لعله يفسِّر الإقتحام الصليبي المرتقب لمنطقة آسيا الصغرى وما حولها . كان هذا هو الوضع في شرق العالم الإسلامي ، وهو - كما رأينا - وضعٌ لا ينذر بخير ، سواء في مناطق آسيا الصغرى والشام وفلسطين أو في مناطق العراق وفارس . ولم يكن الوضع في بقية بلاد العالم الإسلامي طيِّبًا ، اللهم إلا في بعض البقاع المتفرقة ، ولعل أهم المناطق التي تعنينا في هذه القصة هي منطقة مصر لقربها من الأحداث ، بل ولتعرضها لبعض الحملات الصليبية كما سيتبين لنا . وكانت مصر في هذه الأثناء تحت حكم العبيديين الفاطميين ، وقد بدأ حكمهم في مصر سنة 358هـ بعد عدة محاولات لإحتلالها على مدار أكثر من خمسين سنة سابقة ، ثم آلت لهم في النهاية مع شمال إفريقيا ، بل وامتد حكمهم إلى الشام والحجاز . والعبيديون طائفة متطرفة جدًّا من الشيعة ، يقولون بكل عقائد الشيعة وأكثر ، ويحرِّفون تحريفاتهم وأشد ، وهم يدَّعون النسب إلى فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وكذبوا في ذلك ، بل نسبهم إلى أحد اليهود الذين عاشوا في المغرب ، وقد سيطروا على المغرب سنة 296هـ ثم إنتشروا في شمال إفريقيا ، وأقاموا ما يسمونه بالخلافة الفاطمية ، وهي ليست في الأصل خلافة ولا فاطمية ، إنما هي دولة خبيثة قامت على قتل علماء السُّنَّة وإضطهادهم ، وأذاقت الناس العذاب ألوانًا ، وأظهرت من الفسق والفجور والمنكرات ، وتغيير العقائد والأخلاق ما لا يتخيل ، وكانوا جميعًا من طائفة الإسماعيلية ، وهي إحدى الطوائف المنشقة عن الشيعة والمنتسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ، يقول الإسماعيلية : إن الإمام السابع هو ابنه إسماعيل ، بينما يقول الشيعة الاثنا عشرية : إن الإمام السابع هو موسى الكاظم الابن الآخر للإمام جعفر الصادق ، ويقول الإسماعيلية أيضًا : إنه كان بعد الإمام إسماعيل خمسة أئمة مستورين ، ثم الإمام الثالث عشر هو المهدي مؤسس الدولة العبيدية ، ويدَّعون في أئمتهم أشياء عجيبة وخوارق منكرة ، ووصل الأمر إلي إدِّعائهم أن الله - عز و جل - حلَّ في أئمتهم - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - ولذلك فهناك منهم من إدَّعى الألوهية وليس النبوة ، ومن أشهرهم الحاكم بأمر الله الذي كان زعيمًا لدولتهم في مصر ، وهو الذي خاطبه الشاعر بقوله : ما شئتَ لا شاءت الأقدار ==== فإحكمْ فأنتَ الواحد القهارُ !!! الجامع الأزهر - الذي أصبح منارة العالم الإسلامي السني . وأنشأ هؤلاء الفُسَّاق الجامع الأزهر في مصر لينشر سمومهم وأفكارهم المتطرفة ، ولكن ردَّ الله كيدهم في نحورهم ، فأصبح الجامع الأزهر على مدار عدة قرون من مراكز إشعاع السُّنة في العالم , وكانوا يُظهِرون سبَّ الصحابة بل والأنبياء ، بل ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - ومن ذلك ما كان ينادي به القائم بن المهدي في الأسواق : " إلعنوا عائشة وبعلها ، إلعنوا الغار وما حوى !! . وكانوا يضربون عنق من أظهر حُبَّ أبي بكر أو عمر ، ويقطعون لسان من قال في الأذان حي على الفلاح ؛ لأنهم يستبدلون بها حي على خير العمل ، ومنكرات أخرى كثيرة مطولة مسجلة في كتب التاريخ . لقد كانت هذه الدولة الخبيثة هي التي تحكم مصر في ذلك الوقت ، بل وإنها إنقسمت على نفسها في سنة 487هـ عندما تُوفِّي خليفتهم المستنصر ، وتكوَّنت فرقتان كبيرتان ؛ الأولى هي التي تقطن بمصر وتحكمها ، وهي المستعلية - نسبة إلى المستعلي بن المستنصر ، أما الفرقة الثانية فهي أشد شرًّا من كل ما سبق وهي فرقة النزارية ، وهي المنتسبة إلى نزار بن المستنصر أخي المستعلي بن المستنصر ، وهذه الطائفة ألغت الشعائر الدينية ، وإمتنعوا عن إقامة الفرائض ، ومع ذلك ظلوا يدَّعون الإسلام ، وهم الذين عرفوا في التاريخ باسم الباطنية ، وهم يُظهِرون شيئًا ويبطنون أشياء أخرى ، وكان من همِّهم الأكبر قتل علماء السُّنة ومجاهديهم ، وسيكون لهم أثر سلبي شديد على حركات الجهاد التي تهدف إلى إخراج الصليبيين من أرض المسلمين ، وكان هؤلاء الباطنية أهل حرب وحصون وقلاع ، وبأس شديد في القتال ، وكانوا يشنِّون حروب العصابات على القرى الآمنة ، وعاثوا في الأرض فسادًا ، وكانوا أشدَّ على المسلمين من الروم والصليبيين . أما الطائفة التي كانت تحكم مصر في أواخر القرن الخامس الهجري ، أيام قدوم الحملة الصليبية فكانت طائفة المستعلية الإسماعيلية ، وكانوا قد فقدوا السيطرة تمامًا على مناطق شمال غرب إفريقيا ، ولم يعُدْ لهم في ملكهم إلا مصر ، وكانت لهم أطماع كبيرة في الشام وفلسطين ؛ ولذلك فإنهم كانوا في حروب مستمرة مع السلاجقة السُّنة ، ولم يكونوا يمانعون أبدًا في التحالف مع الروم البيزنطيين تارة ، ومع الصليبيين أنفسهم تارة أخرى في سبيل القضاء على السلاجقة ، وإقتطاع جزء من أرض الشام وفلسطين . لقد كان الوضع مؤسفًا حقًّا ! وكان الجيش المصري آنذاك - وعماده في الأساس العبيديون الإسماعيلية - شوكةً في حلق الأمة الإسلامية ، وظل كذلك فترة من الزمان حتى ظهر نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، كما سيتضح لنا من مجريات الأحداث بإذن الله . إذن كانت هذه هي الحال في مناطق آسيا الصغرى والشام والعراق ومصر ، وكلها كما رأينا كان سيِّئًا لسبب أو لآخر ، ولم يكن الحال في بقية أطراف العالم الإسلامي بأفضل من ذلك .. فقد كان الغزنويون يسيطرون على أفغانستان والهند ، ولكنهم - للأسف الشديد - كانوا قد دخلوا في وقت أفولهم ، وبالتالي ضعفت قوتهم جدًّا عن نصرة بلاد الشام ، فضلاً عن بُعد مسافاتهم عن هذه الأراضي . وكانت اليمن مقسَّمة بين ثلاث طوائف هم : بنو نجاح ، والصليحيون ، وبنو زريع ؛ وكانت الحروب بينهم مستمرة ، وكان يغلب على معظمهم التشيُّع ، وكانوا يدينون بالولاء للدولة العبيديّة في مصر . وكانت تونس تحت حكم آل زيري ، وكانوا أيضًا قد دخلوا في طور من الضعف ؛ مما أدى إلى فَقْد ثغر من أعظم الثغور الإسلامية ، وهي جزيرة صقلية ، حيث استطاع الإيطاليون النورمانيون أن يسيطروا عليها تمامًا سنة 484هـ = 1091م - وزال نفوذ آل زيري عنها ، وبالتبعية زال وجود المسلمين من الجزيرة بعد حكم دام مائتين وسبعين سنة متصلة ! أما المكان الوحيد الذي كان يشهد قوة إسلامية في ذلك الزمن ، فكان بلاد المغرب العربي وغرب إفريقيا والأندلس ؛ حيث كانت هذه المناطق تابعة لدولة المرابطين العظيمة تحت قيادة قائدهم الفذِّ يوسف بن تاشفين رحمه الله ، وهو من أعظم القادة في تاريخ الإسلام ، وهو الذي أنزل بالصليبيين القادمين من شمال إسبانيا وفرنسا الهزيمة الساحقة في معركة الزَّلاَّقة سنة في وسط بلاد الأندلس . وهذه الدولة الكبيرة - على قوتها - لم تكن تستطيع أن تساعد بلاد المشرق في حروبهم ضد الحملات الصليبية ، لا لبُعد المسافة فقط ولكن لإنشغالهم الشديد في حرب الصليبيين شمال الأندلس ، والوثنيين في غرب إفريقيا ووسطها . فهذه كانت نظرة عامة على بلاد العالم الإسلامي في أواخر القرن الخامس الهجري ، وهو الوضع الذي مهَّد لدخول الصليبيين إلى معاقلنا ، وليس دخول الصليبيين - كما سنتبين - راجعًا إلى قوتهم ، ولكنه يرجع في الأساس لضعفنا ، وفرقة صفِّنا ، وتشتت قوتنا ، وبُعدنا عن ديننا ، وهي عوامل مهلكة لا تخفى على لبيب ، ولا ينكرها عاقل . | ||||
4 | ||||||||
أوربا قبل الحروب الصليبية
لن نستطيع أن نفهم حقيقة الحروب الصليبية ولا دوافعها وبواعثها بدون إطِّلاع دقيق على الحياة التي كانت تعيشها أوربا في ذلك الوقت ، ولا ينبغي أن يكون ذلك على المستوى السياسي فقط ، بل يجب أن يشمل أيضًا المستوى الاقتصادي والديني والاجتماعي؛ لنأخذ فكرة كاملة عن الأحوال هناك ، ومن ثَمَّ نفقه هذا التوجُّه الأوربي الشامل لغزو العالم الإسلامي الشرقي . - الخلفية الدينية : في هذه الحقبة التاريخية وفي القرون التي سبقت الحروب الصليبية ، وخاصةً القرن التاسع والعاشر الميلادي ، وكذلك الحادي عشر الذي تمت فيه الحروب الصليبية ، كان للكنيسة سيطرة كبيرة على مجريات الأمور في أوربا ، ولم تكن هذه السيطرة فكرية ودينية فقط، بل كانت سياسية واقتصادية وعسكرية أيضًا . لقد كان في إمكان الكنيسة أن تسحب الثقة من الملوك والأمراء ، فتنقلب عليهم الأوضاع ، ويرفضهم الخاصَّة والعامَّة ، ومن ثَمَّ فالجميع ينظر إلى رأي الكنيسة بقدرٍ كبير من الرهبة والتبجيل ، ويكفي للدلالة على قوة البابا في ذلك الوقت أن نذكر موقفًا للبابا جريجوري السابع مع الإمبراطور الألماني هنري الرابع .. لقد كان الإمبراطور الألماني هو أقوى ملوك أوربا في زمانه ، ومع ذلك فقد غضب عليه البابا في أحد المواقف ، ورفض الإمبراطور الاعتذار للبابا ، فقام البابا بسحب الثقة منه ، وأعلن حرمانه من الرضا الكنسي ، وبالتالي حرمانه من الجنة كما يزعم ! وبدأ الناس يخرجون عن طوعه ، بل وكاد أن يفقد ملكه، فنصحه مقربوه بالاعتذار الفوري للبابا ، فماذا يفعل الإمبراطور الألماني الكبير ؟! لقد قرر أن يأتي من ألمانيا إلى روما ماشيًا حافي القدمين ! وذلك حتى يظهر ندمه الشديد على إغضابه للبابا , ثم كانت المفاجأة أن البابا رفض أن يقابله لمدة ثلاثة أيام كاملة ، فبقي الإمبراطور خارج الكنيسة في المطر والبرد الشديد حتى سمح له البابا بالمقابلة ، فما كان من الإمبراطور إلا أن ارتمى على الأرض يُقَّبل قدمي البابا ليصفح عنه !! لقد كان هذا هو الحل الوحيد أمام الإمبراطور العظيم ليحتفظ بملكه ! وكانت الكنيسة الكبرى هي كنيسة روما ، والبابا يستطيع أن يتحكم في كل كنائس أوربا الكاثوليكية ، ومن ثَمَّ يستطيع السيطرة على الأحداث في البلاد المختلفة ، ولم تكن الكنيسة مكان عبادة أو معلِّم للأمور الدينية فقط ، إنما كانت مؤسَّسة ضخمة تُؤدَّى إليها سنويًّا الأموال الغزيرة ، ومن ثَمَّ فإنها كانت تملك الإقطاعيات الكبيرة في أوربا ، بل وكانت تملك الفرق العسكرية التي تدافع عن هذه الإقطاعيات ، وكانت الكنيسة تتحالف مع فرق عسكرية أخرى عند الحاجة ، ومن هنا أصبحت الكنيسة تمثِّل الحاكم الحقيقي لمعظم دول أوربا الغربية ، وإن لم يكن هناك إتحاد بالمعنى المفهوم بين هذه الدول . ومع كون الكنيسة تحتل في هذا الوقت هذه المكانة الكبيرة إلا أن القساوسة كانوا على درجة كبيرة من الجهل والتخبط ، ولم يكن لهم في الغالب أي كفاءة دينية أو إدارية أو قيادية ، ولم يكن هذا فقط ، بل إن معظم البابوات في القرن التاسع والعاشر الميلادي كانوا على درجة كبيرة من الفساد الأخلاقي ، سواء في قضايا المال أو في قضايا النساء , وكثير منهم قُتل في حوادث أخلاقية مخلَّة ، مع أنهم جميعًا كانوا يدَّعون الرهبانية ، ويعلنون اعتزالهم مُتَع الحياة ، ويشيعون الزهد في الدنيا ، ويمتنعون عن الزواج ، ثم يرتكبون بعد ذلك أبشع جرائم السرقة ، وكذلك الزنا ؛ وصدق الله - عزوجل - إذ يقول في كتابه واصفًا هذا التحريف والتبديل الذي أضافه هؤلاء القساوسة في دينهم فشقوا على أنفسهم ، وما إستطاعوا الالتزام بما فرضه بعضُهم على بعض، يقول تعالى : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا . وليس خافيًا على أحدٍ ما حدث منذ عدة سنوات عندما أمسكوا بجيمي سواجارت مع بعض العاهرات في أحد فنادق نيوأورليانز الأمريكية ، وكان جيمي سواجارت قسيسًا من الذين يقيمون المناظرات مع الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات رحمه الله ، ثم أَبَى الله إلا أن يكشف أوراقه أمام الجميع ، فلا يمر أحدٌ الآن على الفندق الذي أمسكوه به إلا ويتذكر قصة هذا الدعيّ جيمي سواجارت . ومع هذا الوضع السيئ للبابوات والقساوسة إلا أنهم كانوا يسيطرون على الأوضاع في أوربا ، وكان يساعدهم في ذلك السطحية والجهل والتخلف عند معظم شعوب أوربا آنذاك ، وكذلك مفهوم الدين عند هذه المجتمعات البدائية ، حيث كان الدين عندهم قائمًا على الخرافات والأباطيل، وكانت تسيطر عليهم فكرة الأشباح والأرواح والخوارق مثلما يحدث في مجتمع ريفي بسيط ، وكان هذا الوضع المتدني يساعد البابوات والقساوسة في السيطرة على عقول الناس عن طريق نشر الإشاعات والأوهام ، وعمليات غسيل المخ التي تمحو كل فرصة للتفكير عند الشعوب . ومن الأفكار المهمة التي أشاعها البابوات والقساوسة في القرن الحادي عشر - أي قبيل الحروب الصليبية بقليل - أن الدنيا على وشك الانتهاء ، وأن يوم القيامة قد اقترب جدًّا ، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح عليه السلام ، أي أن هذه الإشاعة بدأت تنتشر في سنة 424هـ = 1033 - تقريبًا وما بعدها ، وكانوا يفسِّرون كل الظواهر الكونية والطبيعية في ذلك الوقت على أنها أدلة على صدق الإشاعة ، ومن ذلك مثلاً ثورة بركان فيزوف في إيطاليا ، أو حدوث بعض الصواعق أو الزلازل . وكان لإنتشار مثل هذه الشائعات الأثر في إحداث حالة من الوجل والرعب واللهع عند عموم الناس ، وخوفهم المفرط من ذنوبهم ، وبروز دور البابوات والقساوسة والكنيسة بصفة عامة لإنقاذ الناس من هذه الضغوط ، ومساعدتهم على التخلص من هذه الذنوب ، وضرب رجال الدين على هذا الوتر بشدة، واستغلوه في توجيه الناس إلى ما يريدون ، وقد كان من أهم الوسائل للتخلص من هذه الذنوب دفع الأموال للكنيسة ، وهو الأمر الذي تطور بعد ذلك إلى صكوك الغفران ، التي ثار عليها بعد ذلك بقرون مارتن لوثر مؤسِّس البروتستانتية . غير أن هناك وسيلة أخرى أشاعها البابوات والقساوسة للتخلص من الذنوب لها علاقة كبيرة بموضوعنا ، وهو التشجيع على رحلات الحج إلى أرض فلسطين مهد المسيح ، وذلك للتكفير عن الذنوب ، وكانت رحلات الحج التكفيرية هذه تستغرق من الناس جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاَ ، قد يصل إلى سبع سنوات، وكانت هذه الرحلات بديلاً عن دفع المال الكثير للكنيسة ، ومن ثَمَّ رغب فيها الفقراء الذين لا يستطيعون شراء رضاء الكنيسة ، ومن هنا توالت رحلات الحج لفلسطين ، والتبرك بالآثار هناك، وأصبحت هذه الرحلات ثقافة عامة عند الناس ؛ ولذلك إنتشر إسم فلسطين ، وصار متداولاً بين عموم الناس . ولا شك أن هذا مهَّد نفسيًّا لقبول فكرة الحروب الصليبية بعد ذلك ، فهي تذهب إلي مكان مألوف محبوب سمع الناس كثيرًا عنه ، بل وشُجِّعوا على الذهاب إليه ، بل إن فلسطين صارت حُلمًا لكثير ممن يريد الذهاب للتخلص من ذنوبه قبل انتهاء الدنيا ، غير أنه يفتقد الطاقة البدنية أو المالية ليقوم بالرحلة ، وكل هذا - لا شكَّ - أدي إلى تضخيم حجم فلسطين في عيون الغربيين . وتشير الكثير من المصادر والوثائق أن إستقبال المسلمين الذين يحكمون الشام وفلسطين لهؤلاء الحجاج كان استقبالاً طيبًا جدًّا ، ولم يثبت أي محاولات تضييق عليهم كما يحاول البابوات أن يشيعوا ؛ لكي يسوِّغوا فكرة الهجوم على فلسطين لتسهيل رحلات الحج لنصارى أوربا , فهذه الخلفيات الدينية المعقدة من رغبة حثيثة للكنيسة للسيطرة على عقول الناس وأموالهم ، ومن خوف مطَّرد عند الشعوب من فناء الدنيا وكثرة الذنوب ، ومن حبٍّ جارف لهذه الأرض التي وُلد بها المسيح ، والتي بسبب الرحلة إليها ستُغفر الذنوب .. كل هذا وغيره مهَّد لفكرة الحروب الصليبية وغزو فلسطين . ولعل الخلفيات التي يجب أن تضاف إلى هذه الأمور السابقة ، والتي تفسِّر ولع الغرب بقضية فلسطين خصوصًا والشرق عمومًا ، هي ظهور رغبة عند بعض بابوات روما لضم الكنيستين الغربية الكاثوليكية والشرقية الأرثوذكسية تحت سقف واحد ، يحكمه الكاثوليكيون بالطبع ، وكان الذي تبنَّى هذا المشروع بقوة هو البابا جريجوري السابع، وهو البابا السابق مباشرة للبابا أوربان الثاني الذي وقعت في عهده الحروب الصليبية . وكان من ضمن الخطوات التي أخذها البابا جريجوري السابع لإتمام هذه الخطوة الفريدة أن بدأ يحسِّن من علاقاته مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين , وهو الإمبراطور الذي سيعاصر الحروب الصليبية ؛ مما جعل المراسلات بينهما مستمرة ، ومما حدا - بعد ذلك - بالإمبراطور البيزنطي أن يستغيث بالغرب الكاثوليكي لنصرته ضد السلاجقة المسلمين ، وذلك مع شدة كراهية هذا الإمبراطور الأرثوذكسي لكل بابوات وملوك وشعوب أوربا الكاثوليكية . ولعل الخلفيات التي ذكرناها سابقًا تفسِّر بوضوح الحميَّة المتناهية التي كانت عند الغرب للمشاركة في الحملات الصليبية ، ومع ذلك فليست الخلفية الدينية هي الخلفية الوحيدة عند الشعوب الأوربية آنذاك، ولكن كانت هناك عوامل أخرى مؤثرة جدًّا ، مثل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . - الخلفية الاقتصادية : عاشت أوربا عدة قرون تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة ، فمع خصوبة الأرض إلا أنها مليئة بالغابات ، وإستصلاح الأراضي وزرعها يحتاج إلى فنٍّ وجهد وتقنية ، ولم يكن هذا متوفرًا في هذه البيئات الجاهلة ، وخاصةً في المناطق الشمالية ذات الصقيع القارس ، هذا فوق ضعف المواصلات وانقطاع الطرق ؛ مما كان يمنع وصول الغذاء من مكان إلى مكان ولو بغرض التجارة ، ومن ثَمَّ فإن نقص الإنتاج المحلي من الغذاء كان يعني ببساطة المجاعة القاتلة ! وكانت هذه المجاعات تستمر أحيانًا سنوات ، مما يؤدِّي إلي فناء قرى ومدن ، وكان إنتشار الأمراض وإنعدام العلاج يساهم في موت المزيد والمزيد ، وكل هذه الأمور جعلت الفقراء والفلاحين يضيقون ذرعًا بحياتهم ، ويشعرون بالإحباط الدائم واليأس المستمر ، فإذا أضفت لكل ذلك الضرائب الباهظة التي كان يدفعها الفلاحون أدركت مدي المعاناة التي كانوا يعيشونها . وفي أخريات القرن الحادي عشر ، وخاصةً في السنوات العشر التي سبقت الحروب الصليبية حدثت مجاعات رهيبة قاتلة ، خاصةً في شمال فرنسا وغرب ألمانيا ، ولعل هذا يفسِّر خروج الكثير من الجيوش من هذه المناطق ، التي كان لا بد لها من أن تهرب إلى أي مكان به طعام وشراب ، ولو كان هذا المكان على بُعد مئات وآلاف الأميال ، فلن يكون أسوأ من الموت جوعًا ! وعلى النقيض من هذه الصورة ، كانت هناك صورة مغايرة تمامًا عند بعض الإقتصاديين في أوربا ، وخاصةً في الجنوب الأوربي وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ، فقد إزدهرت التجارة البحرية في ذلك الوقت وأفاد تجَّار الجنوب الأوربي من وجودهم على السواحل في التجارة مع حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله ، بل تجاوزوه إلى داخل آسيا وإفريقيا .. وكان من أبرز الموانئ التي ظهرت في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية موانئ إيطاليا ، وخاصةً جنوة وبيزا ، فكانت هذه الموانئ تمثِّل قوة اقتصادية مؤثرة في هذا الوقت ، وكانت القوة الاقتصادية المنافسة الوحيدة هي قوة الاقتصاد الإسلامي ، وكانت لهذه القوة مراكزٌ مهمة في الشام ومصر والمغرب ، وكذلك في الأندلس , وكان هذا التنافس دافعًا للموانئ الإيطالية أن تتربص بالمسلمين قدر إستطاعتها ، ودفعها ذلك إلى تجهيز الحملات العسكرية لإخراج المسلمين من صقلية ، وتمَّ لهم ذلك كما مر بنا ، وخرج المسلمون خروجًا نهائيًّا من صقلية سنة 484هـ = 1091 - بعد حكم 270 سنة ، وهذا يسبق الحروب الصليبية بسبع سنوات فقط ، ولا شك أن هذا جعل الطريق البحري آمنًا إلى حد كبير ! تجار البندقية كان لهم دور كبير في تمويل هذه الحملات ! Click this bar to view the full image. ومن هنا حرص تجار إيطاليا على دعم الحملات الصليبية المتجهة للشرق ، فهم بذلك سيقضون على منافسهم الوحيد ، ومن ناحية أخرى سيفتحون سوقًا هائلاً لتجارتهم في هذه البقاع الإسلامية . وهكذا كان هناك شبه اتفاق بين المطحونين الكادحين الجائعين ، وبين الإقتصاديين والأثرياء المتخمين لغزو العالم الإسلامي والمشاركة في الحروب الصليبية ! - الخلفية السياسية : في القرن الخامس الميلادي، وبالتحديد في سنة 476م ، سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية العتيدة، وذلك تحت الضربات الموجعة للقبائل الجرمانية الشمالية ، وهي قبائل همجية عنيفة لم تنظر بأي عين من الاعتبار للحضارة الرومانية المتميزة ، بل سعت إلى التدمير والإبادة , وفي غضون قرنين من الزمان ، كانت القبائل الجرمانية قد إنتشرت في كل أوربا، وكان هذا الإنتشار مصحوبًا بنشر الأفكار الجرمانية العنيفة ، والسلوك الإجرامي عند عامة الناس . ثم شهد القرنان التاسع والعاشر الميلادي - قبل الحروب الصليبية بقرن من الزمان - عدَّة هجمات ضارية على أوربا ، سواء من الفايكنج القادمين من إسكندينافيا أو من المسلمين القادمين من الأندلس أو الشمال الإفريقي ، وهذا ساعد في زيادة الروح القتالية عند عموم الناس ، وتحول الأوربيون إلى الشكل العسكري ، حتى صارت صورة الشخص النبيل العظيم هي صورة الفارس المقاتل .. الفارس المقاتل , أضحت هي الصوره المثالية لأي أوروبي بالعصور الوسطي ! ونتيجة نمو هذا الفكر العسكري داخل أوربا ، كان لا بد للقوى المختلفة أن تصطدم معًا ، فبدأ الصراع بين الدول الأوربية المختلفة بغية التوسع والسيطرة ، ثم قُسِّمت الدول إلى إقطاعيات منفصلة متصارعة فيما بينها ، وعلى كل إقطاعية أمير قد يدين بالولاء أو لا يدين للملك العام على الدولة ، وكوَّن كل أمير ميليشيات عسكرية خاصة به ، وعمَّت الفوضى كل أرجاء أوربا ؛ مما أدى إلى فَقْد الكنيسة السيطرة على هذه القوى الكثيرة والمتناحرة . وكان الوضع أشد ما يكون ترديًا في فرنسا ، حيث فقد ملك فرنسا السيطرة كُلِّيَّةً على البلاد ، وصار الحكم فيها لأمراء الإقطاعيات ، وتفتَّتت الدولة إلى إمارات متعددة ، كلٌّ منها له جيشه الخاص , أما الوضع في ألمانيا فكان أفضل حالاً ، حيث ظهر فيها ملك قويّ هو هنري الثالث ، ثم إبنه هنري الرابع ، وذلك في القرن الحادي عشر وقبيل الحروب الصليبية مباشرة ؛ وهذا أدى إلى تماسك الوضع نسبيًّا في ألمانيا ، وإن كان هناك خلاف خطير نشأ بين هنري الرابع والبابا في روما كما مر بنا , كان له توابع سنراها مع سير الأحداث . وفي إنجلترا ظهر ملك قوي أيضًا هو وليم الفاتح ، ولكن وضع إنجلترا الاقتصادي كان سيئًا جدًّا ؛ مما جعلها مشغولة تمامًا بنفسه .. أما الدويلات النصرانية في شمال الأندلس، فكانت تبذل كل طاقتها في حرب المسلمين هناك . وتأتي القوة العسكرية الأخيرة في غرب أوربا متمثلة في إيطاليا ، وكانت في الواقع قوة كبيرة ، خاصةً في المناطق التي يسيطر عليها النورمانديون في جنوب إيطاليا ، وبالذات بعد ظهور زعيم قوي جدًّا هناك هو روبرت جويسكارد ، الذي كانت له أحلام توسعية هائلة وصلت إلى حروب مباشرة مع الدولة البيزنطية العتيدة ، وقد إستطاع هذا القائد أن يُسقِط البلقان البيزنطية تحت سيطرته ، بل وبذل أولى المحاولات لإحتلال أنطاكية التي كانت في حوزة البيزنطيين ثم المسلمين ، وكان الذي يبذل هذه المحاولات هو إبنه شخصيًّا وهو الأمير بوهيموند ، الذي سيكون بعد ذلك أحد أمراء الحملة الصليبية الأولي . كما صاحب ظهور هذه القوة الإيطالية المتنامية نمو سريع لأسطول بحري عسكري لميناء البندقية الإيطالي ، وصار له أثر مباشر في تغيير سير الأحداث في حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله . إذن فالوضع السياسي في أوربا كان يضم عددًا كبيرًا من العسكريين المتصارعين ، والمتنافسين على تقسيم البلاد عليهم ، ولما كانت أوربا ضيقة وطبيعتها الجبلية والثلجية معوِّقة ، كان التفكير في التوسع خارج أوربا، كما فكر في ذلك روبرت جويسكارد زعيم النورمانديين الإيطاليين، كما سيحدث بعد ذلك في الحروب الصليبية . - الخلفية الاجتماعية : لم تكن الشعوب الأوربية في ذلك الوقت شعوبًا مستقرة ، بل كانت تعيش حياة البدو الرُّحَّل ، حيث ينتقلون من مكان إلى مكان سعيًا وراء الطعام أو الأمن ؛ وهذا أدى إلى عدم وجود روح الاستقرار والتمسُّك بأرض معينة , ولعل هذا سهَّل كثيرًا على الناس أن يتركوا أوربا بكاملها ، ويتجهون إلى فلسطين بحثًا عن نظام حياة أفضل وأسعد . وكان الفلاحون في أوربا يعانون بطش أمراء الإقطاع ، ولم يكن للفلاحين أدنى حقوق ، بل كانوا يباعون مع الأرض ، ويستغلون تمام الاستغلال لجلب الرفاهية لمالك الإقطاعية ، وهذا ولَّد عندهم شعورًا بالحقد تجاه ملاَّك الأراضي وملاَّكهم ، ولكن لم يكن لهم فرصة ولا حتى حُلم في الخروج من أزمتهم .. وفوق هذا الأسى الذي كان يعيشه معظم الشعوب فإن الجهل كان مُطبِقًا على الجميع ، وكانت الأمية طاغية ، ولم يكن هناك أي ميل للعلوم ، وهذه الحالة المتخلفة جعلت من السهل جدًّا السيطرة عليهم بأية أفكار أو دوافع ، ولم يكن عندهم من القدرة العقلية والذهنية ما يسمح لهم بتحليل الأفكار المعروضة عليهم ، أو ما يمكِّنهم من الاختيار بين رأيين متعارضين ، وهذا كله - ولا شك - سهَّل مهمة إقناعهم بترك كل شيء ، والتوجه للحرب في فلسطين ! هذه الخلفيات التي بحثناها ، وضحت لنا أن المجتمع الأوربي كان مكوَّنًا من طوائف شتى , دينية وسياسية واقتصادية وشعوبية ، وكل هذه الطوائف لها أهدافها ومطامعها ، تصغر أو تكبر بحسب حجمها ، وسيكون من العجيب حقًّا أن تظهر شخصية تجمع أهداف هذا الشتات في هدف واحد ، وتدفعهم جميعًا على اختلاف مستوياتهم المادية والعقلية في اتجاه واحد ؛ فيخرج الجميع , كلٌّ يبحث عن غايته ، وكلٌّ يسعى لتحقيق سعادته . تُرى من هي هذه الشخصية ؟ وكيف جمعت هذا الشتات ؟ وما هي البواعث الحقيقية للحروب الصليبية ؟ وهل هي حرب سياسية أم اقتصادية أم دينية ؟ .. | ||||||||
09-19-11, 10:31 AM | رقم المشاركة : 5 | |||||
|
رد: قصة الحروب الصليبية
الدعوة للحملة الصليبية الأولي تولى الكرسي البابوي في سنة 480هـ =1088 - رجل من الرجال المهمين في الكنيسة الغربية ، وكان لولايته الأثر في تغيير عدة صفحات متتالية من التاريخ ، بل ولعل الآثار التي أحدثها هذا الرجل ما زالت موجودة إلى الآن , وهذا الرجل هو أوربان الثاني الذي تولى الكرسي البابوي في روما إحدى عشرة سنة ، وذلك من سنة 480ه = 1088 - إلي سنة 492هـ = 1099 - وكان هو الآخذ لقرار الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي . أوربان الثاني ! وكان أوربان الثاني رجلاً ذكيًّا سياسيًّا لبقًا ، وكان خطيبًا مفوَّهًا ، وكان أيضًا جريئًا حاسمًا ، وكان مطلعًا على أحوال العالم المعاصر له ، وفوق كل ذلك كان يُكِنُّ حقدًا كبيرًا على المسلمين ، سواء في بلاد المشرق حيث يحكمون أرض المسيح عليه السلام ، أو في الأندلس حيث يحكمون قطعة أوربية مهمَّة على مدار أربعة قرون متتالية حتى زمان تولِّيه البابوية , ثم إنه كان رجلاً ذا طموح كبير ، وأحلام واسعة بأن يكون هو الزعيم الأكبر والأوحد للمسيحيين جميعًا في العالم ، وذلك بتوحيد الكنيستين الغربية والشرقية ؛ استكمالاً لجهود البابا الذي سبقه وهو جريجوري السابع . وكانت العلاقات كما ذكرنا قبل ذلك قد تحسنت نسبيًّا بين البابا السابق جريجوري السابع والإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ، ولقد طلب هذا الأخير المساعدة قبل ذلك من جريجوري السابع لنصرته ضد السلاجقة المسلمين ، ولكن حركة جريجوري السابع لم تكن بالقوة المناسبة، ومن ثَمَّ فلم يكن هناك تحرك يُذكر لمساعدة البيزنطيين . غير أن الإمبراطور البيزنطي كرَّر المحاولة مرة ثانية ، وأرسل وفدًا جديدًا إلى إيطاليا في مارس سنة 487هـ = 1095 - لمقابلة البابا أوربان الثاني ، وتجديد طلب المساعدة منه .. وفكر البابا أوربان الثاني في الأمر ، ووجد أنه لو إستجاب لطلب الإمبراطور البيزنطي ، وعلى نطاق واسع ، فسوف يحقِّق عدة أهداف في غاية الأهمية ، وفي ضربة واحدة . فهو أولاً , سيعيد إبراز دور الكنيسة في حياة الأوربيين ، حيث سيحمل البابا من جديد دعوة تهمُّ كل الشعوب الأوربية ، وهي دعوة ستحمل بين طياتها الغفران الذي يبحث عنه الناس آنذاك بين يدي البابا . وثانيًا , سيقوم البابا بحملة عسكرية تشمل التنسيق بين ممالك وإمارات أوربا المختلفة ، وسيحتفظ بالقيادة في يده ، فهو بذلك سيستعيد سلطان الكنيسة العسكري والسياسي على كامل أوربا ؛ وحيث إن القضية ذات طابع ديني ، فالذي سيرفض قد يعاقب بالحرمان ، وسحب الثقة ، وقد يؤدِّي ذلك إلى زلزلة عرشه ، وبالتالي يصبح البابا هو الشخصية الأولى في أوربا سياسيًّا كما هو دينيًّا . وثالثًا , لن يتحسن وضع البابا دينيًّا وسياسيًّا فقط ، بل سيتحسن اقتصاديًّا أيضًا ، فالبلاد التي ستفتح ستدر أموالاً كثيرة ، والأوربيون الذين لن يستطيعوا المشاركة سيدفعون للكنيسة الأموال ؛ تكفيرًا عن إمتناعهم عن الذهاب لفلسطين . ورابعًا , الثروات التي ستأتي من فلسطين والشام ، ستحل المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها أوربا؛ وبذلك ستستقر الأوضاع المضطربة في أوربا . وخامسًا , ستنصرف طاقات أوربا العسكرية إلى حرب خارجية يُبرِزون فيها قدراتهم ويستنزفون فيها رغباتهم العنيفة ، وذلك بدلاً من التصارع الداخلي بين الإمارات والإقطاعيات . سادسًا , ستشن أوربا الصليبية حربًا على العدو التقليدي لهم وهم المسلمون ، وهي حرب في نظر البابا لا نهاية لها ، ولن يرضى من المسلمين بشيء إلا بتغيير الدين . سابعًا , سيقوم البابا بذلك بنجدة آلاف الفقراء الذين يموتون في أوربا سنويًّا نتيجة الجوع والمرض والبرد ، وسيشعر الجميع بذلك بالرضا نحوه . وثامنًا , ستتاح للبابا الكاثوليكي الفرصة الذهبية ليضم الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية إلى كنيسته الكاثوليكية ، وذلك تحت سيطرته هو ، فهو الذي جاء من أقصى البلاد لينقذ النصارى الشرقيين من المسلمين . وتاسعًا , سيحقِّق حُلمًا عاطفيًّا دينيًّا قديمًا ، بالسيطرة على الأرض التي وُلد فيها المسيح وعاش . وأخيرًا , قد لا تتكرر بعدُ ذلك الفرصة المناسبة التي تبرر للشعوب هذه الحروب الضخمة والتضحيات الهائلة، فالآن النصارى الشرقيون يستغيثون ، ومن ثَمَّ فهناك مسوّغ أن تنفق الأموال ، وتُزهَق الأرواح لنجدتهم ، وستصبح صورة الحرب نبيلة ، وستسكت الشعوب الأوربية عن مساءلة البابا عن الثمن الباهظ الذي سيدفعه في هذه الحروب ، بينما لو كان المبرر للقتال ليس واضحًا فقد يَفْقد البابا عرشه إذا خسرت أوربا كثيرًا في حربها ، وذلك مثلما حدث مع رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية ، الذي خُلع من منصبه بعد الهزيمة الساحقة من السلاجقة في موقعة ملاذكرد .. فالبابا سيحقق كل المكاسب بإستغلال هذه الفرصة ، ولن يخسر شيئًا لو حدث مكروه للجيوش ؛ لأنه في النهاية يحارب من أجل أهداف نبيلة فيما يبدو للناس . فتلك عشرة كاملة !! ومن هنا فإن البابا تحمَّس كثيرًا للطلب الذي طلبه الوفد البيزنطي الأرثوذكسي ، بل إنه جعل الوفد يقابل المجمع الكنسي المجتمع في إيطاليا آنذاك ؛ ليعرض صورة الوضع في الشرق ، وذلك يكون أبلغ في التأثير في القساوسة ، وينفي عن البابا شبهة التخطيط المنفرد للحملة ودون سبب واضح , وقد تحمس الحضور للفكرة ، وتكلم البابا مؤيدًا لكلام الوفد البيزنطي ، وقرر أن يُعِدَّ العدة لأخذ التدابير اللازمة لغزو الشرق الإسلامي . ماذا فعل البابا ؟! لقد قرَّر أن يعقد مجلسًا كنسيًّا كبيرًا يضم القساوسة من أطراف أوربا الغربية ، وذلك لبحث أحوال الكنيسة المتردية ، ثم في نهاية هذا المجلس الكنسي يعقد مؤتمرًا موسعًا يدعو إليه أمراء الإقطاعيات المختلفة ، وكذلك الملوك إن أمكن , بل ويدعو إليه عامَّة الشعب ؛ ليصبح مؤتمرًا جماهيريًّا مؤثرًا ، وفي هذا المؤتمر سيدعو إلى التوجُّه عسكريًّا إلى فلسطين . ولكن بقي السؤال : أين سيعقد هذا المؤتمر الكبير؟ كان البابا على خلاف مع معظم ملوك أوربا ، وخاصةً هنري الرابع ملك ألمانيا ، ولكنه كان على علاقة طيبة مع أمراء الإقطاعيات ، وخاصةً في فرنسا ؛ ولذلك قرر البابا أن يستفيد من علاقاته هذه مع الأمراء في فرنسا فيعقد المؤتمر هناك ، وخاصةً أن الكثافة السكانية في فرنسا كبيرة ، إضافةً إلى المجاعة الكبيرة التي ضربت شمال فرنسا وشرقه في السنوات العشر الأخيرة ، مما أثَّر في الظروف الاقتصادية ، وبالتالي سيكون قبولهم لفكرة الحروب ضد الشرق الإسلامي فكرة مقبولة لإخراجهم من أزماتهم الكثيرة .. ومن ثَمَّ قرر البابا أن يعقد مؤتمره الجامع في مدينة كليرمون الفرنسية وذلك في 27 من نوفمبر سنة 1095م ، وقد آثر أن يكون الوقت متأخرًا نسبيًّا ؛ ليكون هناك فرصة لتبليغ الدعوة في أطراف فرنسا ، وليحضر أكبر عدد من الفرنسيين , كما آثر ألا يكون المؤتمر في باريس ؛ لكي لا يصطدم مع فيليب الأول ملك فرنسا ، الذي كان على خلاف مع البابا ، وأيضًا على خلاف مع أمراء الإقطاعيات الذين يعتمد عليهم البابا في مهمته . كان البرد شديدًا في ذلك اليوم ، ومع ذلك فقد لبَّت جموع هائلة دعوة البابا ، وإجتمعوا في أحد الحقول الفسيحة في كليرمون ، بل وامتلأت القرى والمدن المجاورة لكليرمون بالقادمين من كل مكان لسماع الخطبة المهمة التي كان البابا يرتِّب لها منذ سبعة أشهر كاملة .. خطب البابا خطبة طويلة عصماء ، وكان بليغًا مفوهًا ، وصبرت الجموع في البرد الشديد ، بل وتفاعلت تفاعلاً كبيرًا مع كلمات البابا ، الذي ضرب على أكثر من وتر في خطبته ؛ وذلك ليؤثِّر في كل الحضور علي إختلاف نوعياتهم وظروفهم وأهدافهم . البابا أوربان الثاني وهو يخطب في إجتماع كليرمونت . وقد جاءت خطبة البابا في أكثر من رواية من الروايات الأوربية التي صوَّرت الحدث ، وإستخدم فيها أكثر من وسيلة لإقناع الحضور بضرورة التوجه إلى فلسطين لنجدة النصارى الشرقيين ، ولحماية الحجاج المسيحيين الذين يعانون - كما يصور البابا - من ظلم وبطش الكفار وهو يقصد المسلمين ! وكان من المؤثرات التي استخدمها البابا في خطبته أنه لا يتكلم في هذه الخطبة نيابة عن نفسه، وإنما يتكلم نيابة عن المسيح عليه السلام نفسه ، فقال مثلاً : "ومن ثَمَّ فإنني لست أنا ، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات " ، وإستخدم فيها نصًّا من إنجيل لوقا فيه : "ومن لا يحمل صليبه ، ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" . وكان من المؤثرات أيضًا أنه وعد المشاركين في الحملة بالغفران ، وهو مطلب جماهيري في ذلك الوقت ، خاصةً مع شعور الناس أن الدنيا ستفنى قريبًا كما وضحنا قبل ذلك ، وكان من كلام البابا في هذه النقطة أنه قال : "إني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين ، فضلاً عن أن المسيح يأمر بهذا ، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك ، إذا ما إنتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية ، سواء في مسيرتهم على الأرض ، أو أثناء عبورهم البحر ، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين - يقصد المسلمين ، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها ". وهو في هذا المقام يقول للجميع أنكم في كل الأحوال محققون للفائدة والخير ، فحتي لو وصل الأمر لحدِّ الموت ، فإن المشارك سيموت وهو مغفور الذنب .. وكان من المؤثرات أيضًا أنه إستفاض في تصوير مدى الألم والمعاناة التي يشعر بها الحجاج النصارى في فلسطين، وهذا كله من الكذب والزور، ولكنه صوَّر القضية كقضية إنسانية مؤثرة . وكان من المؤثرات أيضًا أنه لوَّح بوضوح بالثراء الذي عليه بلاد الشرق ، بل إنه ذكر لهم ما جاء في الإنجيل عن أرض فلسطين حيث قال : " ووهبنا هذه الأراضي التي تفيض لبنًا وعسلاً " يقصد فلسطين ، وبذلك حرَّك عواطف الفقراء والأمراء معًا ؛ فالفقير يبحث عن الحياة ، والأمير يبحث عن التوسع والتملك . وكان من المؤثرات أيضًا أنه نبَّه الفرسان إلى وجود ميدان خصب لاستعراض قوتهم ، وإبراز كفاءتهم بدلاً من التصارع معًا ، وإخلال الأمن في داخل أوربا ، وكان من المؤثرات أيضًا امتداح شجاعة الفرنسيين وقدراتهم القتالية ، وأيضًا امتداح تاريخ أسلافهم ، وتحميلهم تبعات سيادة أوربا وريادتها .. وكان من المؤثرات أيضًا جذب المديون بوضع الدَّين عنه إذا شارك في القتال أو تقسيطه على فترات طويلة، وإعفاء أملاك الملاَّك من الضرائب أثناء القتال ، وإعفاء المجرمين من العقاب على جرائمهم إنْ هم شاركوا في الحملة . ولقد صاغ البابا أوربان الثاني كل هذه المؤثرات بأسلوب بديع ، وكلمات مؤثرة ، وحجج مقنعة حتى دخلت كلماته قلوب كل الحضور ، وأشعلت - رغم البرد الشديد - حماسة كل السامعين ، حتى إنه بمجرد الانتهاء من كلمته استجاب الحضور استجابة هائلة ، وقاموا يطلقون صيحة واحدة ، يقولون فيها: " الرب يريدها Deus lo volt ، وهي الصيحة التي صارت شعارًا للحرب بعد ذلك .. ومن الجدير بالذكر أن البابا أوربان الثاني نفسه لم يكن يتوقع هذه الاستجابة الهائلة من الناس ، بل إن هذه الإستجابة الضخمة أقلقته ؛ لأنه كان يريد الاعتماد على الفرق النظامية والجيوش المدربة وليس العوام من الناس ، ولكن العامَّة وجدوها فرصة للهروب من أزماتهم ومشاكلهم وديونهم وجوعهم ومرضهم ، وبالتالي لم يكن هناك فرصة للتراجع . لقد كانت ثورة حقيقية في فرنسا ، ومنها انتقلت إلى كل غرب أوربا ، وفي هذا المؤتمر أعلن البابا أوربان الثاني أنه على كل من قرَّر الخروج إلى هذه الحملة أن يحيك صليبًا من قماش أحمر ليضعه على كتفه ؛ إشارةً إلى دينيَّة الحملة ، ونبل المقصد ! غير أن البابا لم يكتف بالحماسة الطاغية في المؤتمر ، إنما أتبع ذلك بخطة عمل محكمة تضمن استمرارية الحماسة ، وقوة التفاعل ؛ ولذلك فقد قام البابا بعدة خطوات مؤثرة، كان منها ما يلي : أولاً : الحرص على وجود الغطاء الكنسيّ ، والهيمنة البابوية على الحملة من بدايتها الأولى ؛ ولذلك عيَّن في يوم مؤتمر كليرمون الأسقف أديمار دي مونتي أسقف لوبوي Le Puy قائدًا عامًّا رُوحيًّا للحملة، وكان بمنزلة نائب البابا في هذه الرحلة . ثانيًا : تواصل البابا مع كل المجامع الدينية في أوربا الغربية ؛ ليأخذوا على عاتقهم مهمة تحميس الناس في مدنهم وقراهم، وبذلك تنتشر الدعوة إلى الحرب في كل مكان . ثالثًا : قام البابا بتكليف أحد رهبان إميان ، و يُدعى بطرس الناسك ، بالقيام بجولات مكثفة في أوربا لتحميس الناس ، وجمع المقاتلين لغزو فلسطين ، وكان بطرس الناسك هذا رجلاً موهوبًا في الخطابة ، وكان يلبس الملابس الرَّثَّة ويمشي حافي القدمين ، ويركب حمارًا أعرجَ ، فأخذ القضية بمنتهى الجدية ، وبدأ في التجول في أنحاء فرنسا ، وخاصةً في الشمال الشرقي منها ، وكان له فعل السحر في الناس ، فكانوا يتبعونه بالعشرات والمئات والآلاف ، وإستطاع في غضون شهور قليلة أن يجمع خمسة عشر ألف رجل ، غير نسائهم وأطفالهم ، وكان جُلُّ من انضم إليه من عوام الناس الفقراء ، ومن المجرمين الخارجين على القانون ، كما إنضم إليه عدد قليل من الفرسان وأمراء الإقطاعيات .. وعُرفت المجموعة التي كوَّنها بطرس الناسك بحملة الرعاع أو حملة العامة ؛ لأنها لم تكن لها صبغة الجيش أو الميليشيات ، إنما كانت عبارة عن مجموعات ضخمة من العوام غير المنظمين .. وكما قام بطرس الناسك بجولته هذه ، قام راهب آخر يدعى والتر ويلقَّب بالمفلس ، وإستطاع هو الآخر أن يجمع عددًا كبيرًا من المتطوعين الراغبين في الذهاب مع الحملة . رابعًا : لم يشأ البابا أن يترك الأمور هكذا مفتوحة دون تحديد حتى لا يطول أمد التجميع والتجهيز ، فحدَّد موعدًا معينًا ومكانًا معينًا لاجتماع الجيوش والفرق من شتى البلدان ؛ فأما الموعد فكان 23 شعبان سنة 489هـ= 15 من أغسطس سنة 1096 - وأما المكان فكان في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، وكان هذا الموعد متأخرًا ليأخذ الفرصة لجمع الجيوش ، وكذلك لتجميع المحاصيل في أول الربيع ، ثم تتحرك الجيوش مباشرة حيث ستقضي في الطريق ثلاثة أشهر تقريبًا .. وكان المكان المختار للتجمع هو القسطنطينية ؛ لأنها آخر محطة تقريبًا قبل دخول الأراضي الإسلامية في آسيا الصغرى ، حيث كان من المخطط أن يحارب الصليبيون السلاجقة هناك ثم في الشام، وذلك قبل الانتقال إلى الهدف الأخير وهو فلسطين، وخاصةً بيت المقدس , ومن جانب آخر فإنه كان لا بد من لقاء الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ؛ وذلك لترتيب سبل التعاون معه لتسهيل أمور الحملة الصليبية . خامسًا : قام البابا بعدة مراسلات مع ملوك وأمراء أوربا ليحثهم على الخروج معه في الحملة ، ولم يحقق في هذا المجال نجاحًا يُذكر مع الملوك ، ولكن حقق نجاحًا كبيرًا مع الأمراء ، وعلى رأس هؤلاء الأمراء ريمون الرابع كونت تولوز وبروفانس ، وهو من الأمراء الكبار الذي كان مهتمًّا جدًّا بحرب المسلمين ، حيث حاربهم قبل ذلك في الأندلس، كما ذهب أيضًا للحج في بيت المقدس ؛ وكان يرى في نفسه الكفاءة لقيادة الجيوش بكاملها ، واستغل البابا حماسته هذه وعقد معه عدة اجتماعات ، بل صحبه في مجمع نيم في يوليو 1096م ؛ وذلك لتحميس أكبر عدد من الناس للمشاركة في الحملة . وغير ريمون الرابع فقد إستجاب عدد آخر من الأمراء ، وسيأتي تفصيل ذكرهم عند الحديث عن تقسيم الجيوش الصليبية إلى مجموعات قبل الخروج . سادسًا : لم يكتف البابا بمراسلة الملوك والأمراء فقط ، بل راسل أيضًا العسكريين والاقتصاديين في ميناء جنوة الإيطالي للمساعدة بأسطول بحري يسهِّل مهمة الحملة الصليبية ، وقد استجاب الجنويون لنداء البابا ، وأعدوا اثنتي عشرة سفينة بحرية، وناقلة كبيرة للجنود ، وذلك في مقابل امتيازات كبيرة في بلاد الشام عند احتلالها . سابعًا : لم يقتصر البابا على المراسلات المكثفة التي أرسلها لكل رءوس الدول والإمارات، إنما أخذ يتجول بنفسه في مدن كثيرة وقرى عديدة ، داعيًا لنفس المهمة ، فعقد مجمعًا في ليموج Limoges في ديسمبر 1095 بعد المؤتمر الأول بأقل من شهر ، ثم في عام 1096 قام بعدَّة جولات في أنجرز ومان وتورز وبواتييه وبوردو وتولوز ونيم ، وهذا كان في الفترة من يناير إلى يوليو 1096 .. وقد أسفرت هذه الجهود عن تجميع عدد كبير من الجنود جُلُّهم من فرنسا ، وإن كان هناك جنود جاءوا كذلك من إيطاليا وإنجلترا وإسبانيا ، بل ومن بعض البلاد البعيدة مثل إسكتلندا والدنمارك .. ثامنًا : هدَّد البابا بأن كل من يقرِّر المشاركة ويحمل شارة الصليب ثم يتخلف عن الخروج فإنه سيعاقب بعقوبة الحرمان ؛ وقد فعل ذلك لكي يتجنب خطورة الحماسة الطارئة التي ما تلبث أن تفتر ، فيجد أن الأعداد الكبيرة لم تصبر معه على الخروج مما ينذر بخطر كبير .. وهو بذلك التهديد قد ضمن أن كل من عرض الخروج سيخرج ؛ وبذلك يستطيع أن يبني حساباته على أرقام صحيحة . لقد كان جهدًا كبيرًا ومنظمًا بذل فيه الكثير من الوقت والفكر والمال ، وجمعت فيه جهود أوربا الغربية في قضية واحدة ، وهذا لم يحدث منذ عدة قرون ، ومنذ سقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة , بعد ذلك الاستعراض لخلفية أوربا التاريخية ، ولخلفية البابا الفكرية وللجهود التي بذلت ، وللجموع التي إستجابت للدعوة نستطيع أن ندرك البواعث الحقيقية لهذه الحملة الصليبية . إن كثيرًا من المؤرخين يجعل الباعث وراء الحملة الصليبية سببًا معينًا واحدًا أو رئيسيًّا ، وينكر ما دونه من أسباب ودوافع ، وهذا ينافي الواقع الذي رأيناه ، وينافي خروج هذا الشتات من الناس ، حيث يمثِّلون عدة طبقات من المجتمع الأوربي ، وعدة بلاد مختلفة ، وعدة أمراء وزعماء ، وعدة لغات ولهجات ، وعدة مستويات إجتماعية . إن هذا التنوع العجيب يثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أنه ليس هناك دافع واحد جمع كل هذا الشتات، إنما كانت الدوافع مختلفة، والبواعث متعددة ، وأفلح البابا أوربان الثاني في الضرب على كل وتر ؛ حتى يقنع الجميع بالخروج في رحلة واحدة وهدف واحد . ونستطيع بملاحظة تاريخ أوربا قبل الحملة الصليبية ، وبملاحظة طرق التحميس ، وبملاحظة خط سير الحملة ، والمواقف التي تمت في رحلة الذهاب إلى أرض الشام، ثم بملاحظة الأحداث التي رأيناها أثناء الحروب الفعلية في آسيا الصغرى والشام وفلسطين ، نستطيع بملاحظة كل هذه الأمور أن نحدِّد البواعث التي دفعت هذه الجموع المختلفة أن تجتمع للخروج في الحملة الصليبية ، وهذه البواعث تضم ما يلي : - الباعث الديني وهذا الباعث يشكِّل أحد الدعامات الرئيسية لهذه الحملة ، وإن لم يكن كما ذكرنا الدافع الوحيد ، ونحن نعلم من القرآن الكريم ، وكذلك من السُّنَّة المطهرة أن الحرب أبدية بين الإسلام ومن يرفضه ، ولن يقنع الكثير من الناس بالتعايش السلمي مع الإسلام حتى لو مدَّ الإسلام يده بالتصافح والتحابِّ ؛ لذلك فليس مستغربًا أن يسعى البابا أوربان الثاني لحرب المسلمين حتى دون وجود مبررات معينة تدفع لهذه الحرب ، فهم مسلمون وهذا في حدِّ ذاته يكفي أن يكون سببًا في حربهم .. وقد تكررت في كلماته ألفاظ توحي بعدم إعترافه بالإسلام أصلاً ، كإطلاق لفظ الكفار أو الوثنيين على المسلمين ، وعلى ذلك فالدافع الديني واضح عند البابا ، ولا شك أنه واضح أيضًا عند بعض القساوسة والرهبان ، كما أنه واضح أيضًا عند بعض الأمراء والقوَّاد . وفوق كل ذلك فالهدف الديني هو الهدف المعلن للحملة ، وإنقاذ الدولة البيزنطية من المسلمين كان السبب المتداول بين الناس ، إضافةً إلى إدِّعاء البابا أن المسلمين يضطهدون الحجاج المسيحيين ، وإن كان واضحًا أن هذا الإدِّعاء ما ذكر إلا للإستهلاك المحلي في أوربا فقط ، ولتحميس الجيوش والشعوب النصرانية ؛ لأنه لم يثبت أبدًا أن المسلمين إضطهدوا الحجاج النصارى ، وقد ذكر أحد كبار المؤرخين الأوربيين وهو غيورغي فاسيلييف أن المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي ، فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة ، وإنما سمح لهم أيضًا بتشييد كنائس وأديرة جديدة ، جمعوا في مكتباتها كتبًا دينية متنوعة في اللاهوت ، ويقول تومبسون - وهو مؤرخ : " إن المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها" .. بل إن كلام بطريرك القدس ثيودسيوس شخصيًّا في إحدى رسائله إلى بطريرك القسطنطينية سنة 255هـ = 869 - إمتدح المسلمين ، وأثنى على قلوبهم الرحيمة ، وتسامحهم المطلق ، حتى إنهم سمحوا للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شئونهم الخاصة ، وقد ذكر بطريرك القدس في رسالة حقيقية مهمة حين قال: "إن المسلمين قوم عادلون ، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت" .. هذه الكلمات والشهادات وغيرها تثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أن كلام البابا أوربان الثاني عن إضطهاد المسلمين للحجاج المسيحيين ما هو إلا فِرْية لا أصل لها ، وتغطية مكشوفة على الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة العنيفة . وفوق هذا فإننا لم نَرَ في سلوك المحاربين في هذه المعارك - سواء في رحلتهم إلي بيت المقدس أو في أثناء حروبهم - أيَّ علامات للزهد أو الورع الذي يتصف به المتدينون ، بل كانوا في غاية السفاهة والحمق ، وبلغوا الذروة في الشر والإجرام ، بل إنهم لم يتصفوا بذلك فقط عند تعاملهم مع المسلمين ، بل كذلك عند تعاملهم مع النصارى الشرقيين ، وسنرى طرفًا من هذا السلوك المقيت في أكثر من موضع من مواضع هذه القصة ، سواء مع نصارى المجر والنمسا وبلغاريا أو مع نصارى القسطنطينية ذاتها ، التي زعموا أنهم جاءوا لإنقاذها ! إذن كان الباعث الديني موجودًا ، ولكنه ليس هو الدافع الوحيد ، بل لا ينبغي أن يُضخَّم كثيرًا ؛ فعموم الحملة الصليبية لم يكن يعنيهم الدين لا من قريب ولا من بعيد ، وإن كانوا جميعًا يضعون شارة الصليب على أكتافهم ، ويدَّعون أنهم يريدون المغفرة !! - الباعث الاقتصادي وهذا الباعث أيضًا من أهم البواعث في هذه الحملة الصليبية ، فالجموع الهائلة من العامة خرجت لإحباطها التام من الحصول على أي قسط من رغد الحياة في أوربا ، فخرجوا يبحثون عنها في فلسطين ، وهم لن يخسروا شيئًا ، فحتى الموت أفضل من حالتهم البائسة تحت نير الإقطاعيين والملوك .. والأمراء الإقطاعيون ما خرجوا إلا بغية الثراء والتملك ، وقد كانت الحرب في فلسطين فرصة للكثيرين من أمراء أوربا لتحقيق طموحات إستحال عليهم تحقيقها في أوربا ؛ لأن القانون الأوربي آنذاك كان يمنع تقسيم الميراث على كل الأبناء ، بل كانت تنتقل الإقطاعية بكاملها إلى الإبن الأكبر بعد وفاة الأب الأمير ، وذلك حتى لا تتفتت الثروة وتقلُّ الأرض ، وبالتالي تسقط الهيبة والكلمة .. وهذا الوضع خلق جيلاً من الأمراء لا أمل عندهم في التملُّك ، فلما فتحت أمامهم أبواب الحرب في فلسطين سارعوا جميعًا للحصول على أي ملكية ؛ لينافسوا بذلك إخوانهم الكبار . وكان هذا الباعث الاقتصادي واضحًا أيضًا عند تجَّار الموانئ الإيطالية ، وأشهرها البندقية وبيزا وجنوة ، وكذلك تجَّار مرسيليا الفرنسية ، وغيرهم من تجار أوربا ؛ فقد رأى هؤلاء التجار أن الفرصة لتحقيق المصالح الذاتية لهم ، ولو على حساب البابوية والكنيسة , وكان تبادل المصالح واضحًا جدًّا بينهم وبين الكنيسة ، فالصليبيون لن يستطيعوا الاستغناء أبدًا عن معونة الأساطيل البحرية ، والتجار سوف يأخذون مقابلاً سخيًّا نظير هذه المعونة ، وهذا المقابل كان عبارة عن امتيازات خاصة تُعطَى للجمهورية التي تساهم في هذه الحروب المتواصلة، ولم تكن الامتيازات تشمل فقط حرية التجارة في البلاد المفتوحة ، بل كانوا يُعْطَون في كل مدينة تُفتح شارعًا وسوقًا وفندقًا به حمام ومخبزًا خاصًّا ، وكان التنافس بين الجمهوريات الإيطالية في هذا المجال كبيرًا جدًّا ، بل كان التصارع والتقاتل ، وما لبثت مرسيليا أن سارت على نهجهم وتنافست معهم ، وأخذت امتيازات قوية في بيت المقدس ذاته . ولا يخفى على أحد أن النوايا الدينية لم تشغل أبدًا أذهان هؤلاء التجار الجشعين ، وكانت كنوز الشرق وأراضيه هي الباعث الأكبر لهم على بذل كل الجهد لإنجاح الحملة الصليبية . - الباعث السياسي وهذا الباعث الذي يهدف إلى توسيع النفوذ وقهر المنافسين ، كان باعثًا رئيسيًّا عند البابا أوربان الثاني شخصيًّا ، وكذلك عند ملوك أوربا , وهؤلاء الملوك لم يكن طموحهم يقف عند شيء ، وكانت قوة كل ملك فيهم ترتبط بالمساحة التي يسيطر عليها ، وهذا دفعهم بعد ذلك للمشاركة بقوة في الحملات الصليبية عندما شاهدوا النجاحات التي حققتها الحملة الأولى . كما أن ملوك أوربا كانوا يرون أن الدولة البيزنطية دخلت طورًا واضحًا من أطوار الضعف ، ولو سقطت فإن هذا يعني فتح الباب الشرقي لأوربا لقوات المسلمين العسكرية ، سواء من السلاجقة أو من غيرهم ، وهذا قد يضعهم بين فكي كماشة ، أي المسلمين القادمين من الشرق والمسلمين في أرض الأندلس ؛ لذلك رأينا أنه برغم التباطُؤ الذي رأيناه من الملوك في بداية الحملات إلا أنهم تسارعوا بعد ذلك للمشاركة ، بل ذهب بعضهم بنفسه إلى أرض فلسطين أو مصر على قيادة جيوشه . - الباعث الاجتماعي مرَّ بنا عند الحديث عن الحالة في أوربا قبيل الحروب الصليبية ، الحالةُ المزرية التي كان يعيشها الفلاحون والعبيد في أوربا ؛ ففضلاً عن قلة الأقوات وإنعدام الطعام والشراب ، كانت المعاملة في غاية السوء ، ولم يكن لهم حقوق بالمرَّة ، بل كانوا يباعون مع الأرض ، ولا يسمح لهم بأي نوع من الملكية والإنسان قد يصبر على الجوع أحيانًا لكن الامتهان النفسي والأذى المعنوي ، قد يكون أشد ألمًا من الجوع والعطش ؛ ولذلك رأى العوام الفلاحون في أوربا أن هذه فرصة لتغيير نظام حياتهم ، والخروج المحتمل من قيود العبودية المذلَّة ؛ ولذلك خرج الفلاحون بنسائهم وأولادهم ، وحملوا معهم متاعهم القليل البسيط ، لقد كان خروجًا بلا عودة ، وتغييرًا كاملاً للأوضاع ، وثورة حقيقية على حياة التعاسة والاستغلال ؛ لذلك سنرى أثناء الأحداث أن هذه الجموع البائسة ما صبرت حتى تكتمل الجيوش وتنتظم ، بل خرجت بمفردها مسرعة ، وكأنها تهرب من أسرٍ طويل ! ولقد شارك هؤلاء البائسين فريقٌ آخر من المجرمين والخارجين على القانون الذين كانوا يعانون أحكامًا قضائية أو مهددين بذلك ، وقد وجدوا الخروج ليس فرصة للنجاة من الأحكام وحسب ، ولكنه فرصة أيضًا لمزاولة السلب والنهب والقتل والإغتصاب كما اعتادوا ذلك في حياتهم ؛ وهذا سيعطي الحملات الصليبية صبغة إجرامية لا يمكن تجاهلها أبدًا . كانت هذه إذ ً هي البواعث التي من أجلها تحركت أوربا لغزو العالم الإسلامي، والسيطرة على أرضه ومقدراته وشعوبه ! | |||||
09-19-11, 10:34 AM | رقم المشاركة : 6 | |||
|
رد: قصة الحروب الصليبية
- الطريق إلي بلاد المسلمين تحركت جموع الفلاحين الأوربيين بنشاط لتهرب من الواقع الأليم الذي تعانيه، ولم تستطع أن تصبر حتى اكتمال تجهيز الجيوش النظامية ، فقررت أن تخرج بنفسها إلى بلاد المسلمين مغترة بأعدادها ومفتونة بحماسها ، وإن كانوا جميعًا ممن لا يحسنون القتال والحروب ، بل لعلهم لم يحملوا سيفًا طيلة حياتهم .. تولى قيادة الجموع الهمجية والتر المفلس ، وكان فارسًا شرسًا من بواسي Poissy , ولم يكن في هذه الحملة إلا ثمانية فرسان فقط ! , وخرجت هذه الحملة من فرنسا وإخترقت ألمانيا، وهي تجمع في طريقها الأنصار والمتحمسين ، وإن كان يبدو عليهم بوضوحٍ عدم الخبرة وإنعدام التنظيم . ثم عبرت هذه الجموع إلى الأراضي المجرية ثم البيزنطية ، وفي هاتين المرحلتين الأخيرتين ظهرت بوضوح طبيعة هذه الحملات العدوانية ؛ فقد نظرت هذه الجموع إلى أعدادها وقوتها ، وإسترجعت تاريخها في الحرمان والفاقة ، فنسيت الهدف المعلن الذي خرجوا له ، وهو نصرة المسيحيين الشرقيين ، ومن ثَمَّ قرروا الهجوم على القرى والمدن الآمنة التي في الطريق ، وكلها آهلة بالسكان النصارى الذين من المفترض أنهم جاءوا لنصرتهم !! , لقد كانت وصمة في تاريخ أوربا حيث بدأ السلب والنهب والاعتداء على الرجال والنساء وسرقة الأموال والديار ! دُهِش الإمبراطور البيزنطي من هذه الأعمال التي إرتكبت في دولته من هذه الجموع التي لا تفقه شيئًا لا في الدين ولا في السياسة ولا في الحرب ؛ فإنعدام الدين عندهم واضح لكونهم يقتلون إخوانهم النصارى دون أدنى مبرر ، وإنعدام السياسة واضح أيضًا لأنهم يفعلون ذلك في أراضي الدولة البيزنطية غير مقدرين القوة العسكرية الضخمة لهذه الدولة العتيدة ، كما أنهم لا يفقهون شيئًا في القتال والنزال ، كما هو واضح من أشكالهم وتنظيمهم وطريقة حربهم ، ومع ذلك فإن الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين تذرَّع بالصبر ، ولم يشأ أن يهاجم هذه الجموع فيفنيها ؛ لأنه كان يريدها لحرب المسلمين ، ومن ثَمَّ لم يتعرض لحملة والتر المفلس بسوء ، وإن كان لم يأمنهم على القسطنطينية ؛ فأنزلهم خارج أسوارها لينتظروا بقية الحملات والجنود . وفي هذه الأثناء كان بطرس الناسك قد جمع أعدادًا غفيرة من الفلاحين البؤساء رجالاً ونساءً وأطفالاً ، وإنضم لهم جمع كبير من الأفَّاقين والمجرمين وبنات الهوى ، وكان تجمعهم في حوض نهر الراين بألمانيا ، ثم غادروا الأراضي الألمانية في 489هـ = 20 من إبريل 1096م ، ولم يكن في هذه الجموع إلا عدد قليل من الفرسان يتقدمهم بطرس الناسك على حماره الأعرج . وكما كانت رحلة والتر المفلس إجرامية إرهابية ، كانت أيضًا رحلة بطرس الناسك ؛ إذ إنها بمجرد دخولها للأراضي المجرية حتى بدأت تفسد في الأرض ، وبشكل أكبر وأوسع ؛ لأن أعدادهم كانت أكبر ، وطبيعتهم كانت أفسد ، وظهرت بوضوح في هذه الرحلة النوايا الخبيثة لبطرس الناسك الذي لم يكن يتورع عن إزهاق الأرواح النصرانية وسلب الأموال والممتلكات ، مع أنه كان يطلق على جيشه جيش الرب ! وتفاقمت المأساة وبلغت ذروتها عند مدينة سملين Semlin المجرية ، حيث هجم بطرس الناسك ومن معه على المدينة النصرانية ، فأحدثوا فيها مجزرة بشعة كان ضحيتها أربعة آلاف نصراني جملة واحدة !! وإنتبه الملك المجري كولومان للمصيبة ، ولم يكن يتوقعها من أناس يرفعون الصليب شعارًا لهم ، فجمع قوته وهاجمهم ، فتفرقوا في الغابات المجرية ، وقتل منهم البعض ، وفر الباقون إلى الأراضي البيزنطية المجاورة ليستكملوا مسيرة الإفساد في الأرض . وفي الأراضي البيزنطية تجمعت قوتهم من جديد ، ورصدتهم عيون المخابرات البيزنطية ، وتركتهم عمدًا يتحركون صوب القسطنطينية ؛ وذلك للإلتقاء مع جموع والتر المفلس .. غير أن هذا الهدوء من الدولة البيزنطية أغرى الجموع المفسدة بمواصلة السلب والنهب ، فتكررت مأساة سملين في مدينة نيش البيزنطية ، حيث قتل بطرس الناسك ومن معه أعدادًا كبيرة من النصارى الأرثوذكس وأحرقوا الديار بأهلها ، وهنا لم تعبر الجيوش البيزنطية ، بل هجمت على جموع بطرس الناسك ، وقتلت منهم عددًا كبيرًا ، كما إستولت على الأموال والتبرعات التي جمعها بطرس الناسك قبل ذلك من الغرب الأوربي ، ومع ذلك فلم يشأ الجيش البيزنطي أن يفني الجموع المفسدة ؛ لأنه كان يريد توجيههم لحرب المسلمين . وعند مدينة صوفيا أرسل لهم الإمبراطور البيزنطي وفدًا يحذرهم من عواقب هذه الهمجية ، ويأمرهم بعدم البقاء أبدًا في أي مدينة بيزنطية أكثر من ثلاثة أيام ، ثم تولى فريق من البيزنطيين قيادة هذه الجموع إلى أسوار القسطنطينية لمقابلة فرقة والتر المفلس هناك . إن الناظر لأحوال هذه الجموع المفسدة قد يتعجب ، ولكن المحلِّل للتاريخ بدقة سيجد أن هذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا ، وكثير التكرار في كل مراحل التاريخ ؛ إنها القوة التي نزعت منها الرحمة والأخلاق والدين ، وأي قوة لم تُجمَّل بهذه الآداب فإنها - لا شك - ستكون طاغية مفسدة , لقد فعلت الجيوش الفارسية الشيء نفسه وهي في طريقها لحرب المسلمين في موقعة القادسية ، حيث أغارت على عدة مدن وقرى فارسية في طريقها ، وهذه المدن والقرى لا يقطن فيها إلا الفارسيون الذين تربطهم بهذا الجيش علاقات الدم والدين ، ومع ذلك عاث الجنود الفارسيون في الأرض فسادًا ، وذبحوا أهلها ، ونهبوا أموالهم وديارهم ، وإعتدوا على نسائهم وأطفالهم ! والجيوش البيزنطية ذاتها التي تأمر الآن الجموع المفسدة بأن تملك أعصابها ولا تقتل إخوانها ، هي ذاتها التي أذاقت أهل الشام النصارى العذاب ألوانًا ، وفرضت عليهم الضرائب الباهظة ، وحوَّلت كل المحاصيل والغلال إلى الدولة الرومانية ، وفعلت ذلك وأكثر في مصر ، مع أن الجميع في النهاية ينتمي إلى المذهب الأرثوذكسي ! والجيوش الألمانية النازية ، ماذا فعلت عندما شعرت بقوتها ؟! إن كل الشعوب التي ذاقت ويلات الألمان كانت شعوبًا نصرانية مثل الألمان ، بل إن الجيوش الإسلامية إن لم تكن إسلامية إلا بالإسم فقط ، وفرغت من الخلق القويم والإلتزام الشديد بقواعد الدين وأصوله ؛ فإنها هي الأخرى جيوشٌ إرهابية يعاني منها المسلمون قبل غير المسلمين ، وهذا نشاهده كثيرًا في الجيوش المسلمة التي تتبع مناهج علمانية بعيدة كل البعد عن الإسلام . إن هذا الاستعراض لرحلة والتر المفلس أو بطرس الناسك يوضِّح لنا بجلاء طبيعة الحملات الصليبية ، وأنها - وإن رفعت الصليب شعارًا - ما جاءت إلا للسلب والنهب والاستحواذ والتملُّك . ولم تكن حملات والتر المفلس وبطرس الناسك هي الحملات الشعبية الوحيدة، بل خرجت حملات أخرى من غرب أوربا مثل : حملة فولكمار Volkmar، وحملة جوتشوك Gottschock، وحملة إميخ Emich ؛ وكان شعار كل هذه الحملات الإفساد في الأرض ، وقد قامت حملة إميخ بقتل إثني عشر يهوديًّا في مدينة سبير Spier في وادي الراين، ثم أتبعوهم بقتل خمسمائة يهودي في مدينة وُرمز في وادي الراين ، وذلك في 20 من مايو 1096م ، ثم زاد الأمر أكثر في مدينة مينز حيث قُتل ألف يهودي . وقامت حملة فولكمار أيضًا بقتل عدد آخر من اليهود في مدينة براغ ، وكان من الواضح في هذه الحملات العنصرية الفجَّة ، فهم في البلاد الكاثوليكية يقتلون اليهود ، وفي البلاد الشرقية يقتلون الأرثوذكس ، وسوف يسعون بعد ذلك لقتل المسلمين . غير أن هذه الحملات الأخيرة ، وخاصةً حملة إميخ وفولكمار ، تعرضت لصدمة قاسية في الطريق ، حيث ترصَّد لها ملك المجر كولومان ، وخاف من تكرار مأساة والتر المفلس ، وبطرس الناسك ؛ ومن ثَمَّ حاصر هذه الحملات الأخيرة ، وأبادها تمامًا ، فلم يكن لها أي دور في المشاركة مع والتر وبطرس في الحرب الصليبية . لقد كانت نهاية تعيسة لجموع تعيسة هربت من حياة الضنك لتُقتل في غابات المجر ، وتقتل معها أحلام العيش السعيد في بلاد الشرق المسلمة ! نعود إلى أسوار القسطنطينية حيث وصل إليها بطرس الناسك في أوائل أغسطس 488هـ = 1096 - ليلتقي مع والتر المفلس وفرقته، ليصبح التجمع الصليبي كبيرًا جدًّا , وتختلف الروايات في تقدير عدد هؤلاء الفلاحين والمغامرين ، حيث تقدرهم بعض الروايات بخمسة وعشرين ألفًا ، بينما تصل بهم بعض الروايات إلى مائة ألف صليبي ، هذا بخلاف النساء والأطفال . وعند قدوم بطرس الناسك إستقبله الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين استقبالاً حسنًا ، وإن كان متعجبًا لهذه الجموع الهمجية التي أرسلتها أوربا لنجدته من المسلمين ، غير أنه أدرك أن هذه الجموع ما هي إلا مقدِّمة للجيوش الصليبية المدربة ؛ ومن هنا نصح الإمبراطور بطرس الناسك ومن معه بإنتظار الجيوش النظامية ، وعدم التهوُّر بمقابلة الجيوش السلجوقية المدربة , غير أن الجموع النصرانية ما لبثت أن كررت الفساد في القرى والضِّياع المحيطة بالقسطنطينية ، وكادت السيطرة تفلت من أيدي الجيش البيزنطي ، مما دفع الإمبراطور البيزنطي إلى سرعة نقل هذه الجموع المفسدة عبر مضيق البسفور إلى آسيا الصغرى حيث السلاجقة المسلمين ؛ وذلك ليؤمِّن منطقة القسطنطينية وما حولها .. ومع غضبه الشديد إزاء هذه الأعمال المتهورة إلا أنه أمدَّهم بالنصح والإرشاد ، وساعدهم بالسفن البيزنطية وأعطاهم بعض السلاح ، وأرسل معهم بعض العيون والخبراء . دخلت الجموع الصليبية إلى آسيا الصغرى ، ولم يطيقوا الصبر حتى تأتي جيوشهم المحترفة ، فقاموا بالإغارة على بعض القرى المسلمة ، وقتلوا وسلبوا ونهبوا ، وزادهم هذا إغراءً فتمادوا في الغيِّ ، وهم لا يدركون أنهم أصبحوا على بُعد عدة كيلو مترات فقط من مدينة نيقية قاعدة السلطان قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش ، سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى آنذاك . دبَّر السلطان قلج أرسلان مكيدة حربية ، وإستطاع الإيقاع بالجموع الساذجة في فخٍّ محكم ، وحاصرت الجيوش السلجوقية جموع الصليبيين ، ودارت معركة سريعة ظهر فيها الجهل الواضح لهذه الجموع الشعبية ، لينطلق السلاجقة في قتل معظم هذه الجموع ، حتى كادت تُباد عن آخرها ، لولا أن الإمبراطور البيزنطي سمع بأنباء الكارثة ، فأرسل سفنًا حربية وبعض الجنود البيزنطيين الذين إستطاعوا إنقاذ ثلاثة آلاف صليبي فقط ، بينما دُمِّر الباقي تمامًا في الكمين السلجوقي .. وكان ممن قتل في هذا الصدام والتر المفلس ، بينما نجا بطرس الناسك الذي كان في مقابلة مع الإمبراطور البيزنطي وقت وقوع الجموع الصليبية في الكمين السلجوقي . كانت صدمة قاسية جدًّا للإمبراطور البيزنطي ، وبطبيعة الحال لبطرس الناسك ، وإحتفظ الإمبراطور بالبقية الباقية من هذه الجموع وقائدهم بطرس الناسك في مدينة القسطنطينية ؛ ليكونوا في انتظار الجيوش الصليبية المحترفة . وهكذا كانت النهاية المأساوية لكل الحملات الشعبية ، سواء على يد ملك المجر كولومان أو على يد السلاجقة المسلمين ؛ ليدفع فقراء أوربا وفلاحوها ثمن الغرور الذي ملأ رجال دينهم وأمراءهم وإقطاعياتهم ، وهكذا دومًا تدفع الشعوب المغلوبة على أمرها ثمن هوانها وذلتها وبينما كان الحال كذلك مع هذه الحملات الشعبية كان العمل يجري على قدم وساق في أوربا الغربية وخاصةً فرنسا ؛ لتجميع الجيوش النظامية وبأعداد ضخمة لم تسبق في تاريخ أوربا ، بل لعلها لم تسبق في تاريخ العالم أجمع ! - الإعداد العسكري للحملة الصليبية الأولي لم تعرف أوربا الغربية في هذا الوقت الوحدة بأي شكل من الأشكال ، ولم يحدث منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية العظمى في سنة 476م - أي منذ أكثر من ستة قرون - أن تجمعت جيوش الدول الأوربية الغربية في معركة واحدة ، اللهم إلا المساعدات التي كانت تقدمها هذه الدول - وخاصةً فرنسا - للممالك النصرانية في شمال الأندلس في حروبهم ضد مسلمي الأندلس . بل لم تعرف الدول ذاتها في ذلك الوقت الوَحْدة الداخلية ، فكانت كل دولة أو مملكة مقسمة لعدة إقطاعيات ، وعلى كل إقطاعية أمير يحكمها فيما يشبه الحكم الذاتي ، وإن كان يدين بالولاء للملك الذي يجمع الإقطاعيات معًا ، وإن كان هذا الولاء كثيرًا ما يكون ولاءً شكليًّا لا واقعيًّا . إن وضعنا هذه الخلفية في أذهاننا ، فإننا سندرك أن تجميع هذه الإقطاعيات المتعددة في جيش واحد منظم سيكون أمرًا صعبًا جدًّا ، بل إنه يكاد يكون مستحيلاً ، وهذا سيعني أن الحملة الصليبية غالبًا ستكون مكوَّنة من عدة جيوش منفصلة ، على رأس كل جيش أمير له أحلامه الخاصة ، وله ولاءاته الخاصة أيضًا ، وقد يحدث التعاون بين هذه الجيوش المتعددة في بعض المواقف ، ولكنه - لا شك - سيحدث أيضًا التعارض والتشاحن بين نفس الجيوش ، خاصةً أن الكثير ممن شارك في هذه الحملة الصليبية الأولي كان متنافسًا مع أمراء آخرين شاركوا في نفس الحملة ؛ مما سيفرز مواقف ذات طابع خاص ، كلها يثبت في النهاية أن المطامع الشخصية والأهواء الخاصة كانت هي الدافع الوحيد لخروجهم - أو على الأقل لخروج معظمهم - ولم يكن في اعتبارهم أبدًا الدين أو الكنيسة أو الصليب . وبالنظر إلى الجيوش التي كوَّنت الحملة الصليبية الأولى نجد أنها عبارة عنخمسة جيوش مستقلة : 1- كان الجيش الأول بقيادة الفرنسي جودفري دي بوايون GODFREY DE Bouillon وهو أمير لوثرتجيا جودفري البولوني ، وكان بصحبته أخوه الأمير بلدوين , كما التحق بجيشه عدة أمراء آخرين معظمهم من فرنسا ، وقد أعطت كثرة الأمراء في هذا الجيش صبغة خاصة من الأهمية له ، وكانوا في المعظم من منطقة اللورين شمال فرنسا، وكان في هذا الجيش أيضًا بعض الألمان . والأمير جودفري بوايون وإن كان فرنسيًّا إلا أنه كان يدين بالولاء للإمبراطور الألماني القوي هنري الرابع ، ولم يكن يدين بالولاء للملك الفرنسي الضعيف آنذاك فيليب الأول ، وكان جودفري بوايون يحرص على أن يكون قائدًا عامًّا لكل الحملة الصليبية ، يؤيده في ذلك كثرة الأمراء في جيشه خاصة . 2- أما الجيش الثاني فكان جيشًا مهمًّا أيضًا ؛ إذ كان على رأسه الأمير ريمون الرابع كونت تولوز والبروفنسال ، وهو الجيش القادم من جنوب فرنسا ، وكان هذا الجيش يكتسب أهمية خاصة لكون الأمير ريمون يعتبر نفسه - كما كان جودفري بوايون - أهمَّ قواد الحملة الصليبية .. وكان الأمير ريمون أكبر الأمراء سنًّا ، كما أنه كان من أوائل الذين إستجابوا لدعوة البابا أوربان الثاني ، بل إنه صاحبه في أكثر من مؤتمر لجمع المحاربين ، وهو الذي قبل ذلك شارك في حرب المسلمين في بلاد الأندلس ، وكان صاحب صبغة دينية واضحة ، وكان مقربًا من البابا حتى إن البابا جعلَ في جيشه هو دون غيره ممثلَ الكنيسة أديمار أسقف لوبوي ، وفوق كل ذلك فإن جيشه كان أكبر الجيوش الصليبية ؛ كل هذه المقومات جعلت الأمير ريمون الرابع يطمع في أن تكون إمارة الجيوش العامة معه هو ، وليس مع غيره . 3- وأما الجيش الثالث فكان بقيادة الأمير روبرت دوك نورماندي Robert Duke Normandy الذي كان يصطحب معه زوج أخته ستيفن كونت بلوا Stephen Blois ، وكان هذا الجيش من غرب فرنسا في الأساس ، إضافةً إلى جيش نورماندي مع الكثير من الفرسان الإنجليز . 4- وكان الجيش الرابع فرنسيًّا أيضًا ، ولكنه كان جيشًا صغيرًا ، ويبدو أنه كان تمثيلاً شرفيًّا لملك فرنسا فيليب الأول ، حيث كان على قيادة الجيش شقيق الملك شخصيًّا ، واسمه هيو ، وكان كونت قرماندوHugh count vermanois 5- أما الجيش الخامس والأخير فكان جيشًا خطيرًا ومهمًّا ، وهو الجيش الإيطالي القادم من جنوب إيطاليا ، والمكوَّن من المقاتلين النورمان الأشداء ، وكان على قيادته الأمير الطموح بوهيموند ابن روبرت جويسكارد , وكان هذا الأمير يطمح - كما كان جودفري بوايون وريمون الرابع يطمحان - إلى قيادة الجيوش مجتمعة ، وكان يؤيِّده في ذلك أن جيشه هو أقوى الجيوش تنظيمًا ، وأكفأهم عسكريًّا ، وأشدهم قتالاً ، ثم إنه إبن روبرت جويسكارد ، وكان من أقوى أمراء أوربا مطلقًا ، وهو الذي إستطاع إخضاع البلقان لسيطرته بعد أن هزم الدولة البيزنطية ذاتها , كما أن لبوهيموند خبرة سابقة في حصار أنطاكية سنة 1081م ، ومواجهة الدولة البيزنطية هناك ، وكان بصحبة بوهيموند إبن أخته الأمير تانكرد ، وهو من الأمراء الأشداء الطموحين أيضًا ، كما إصطحب أيضًا عددًا من الأمراء النورمان الأكفاء . وهكذا نجد أن الجيوش الصليبية لم تجمعها قيادة موحَّدة ، بل كان القواد منالبداية يتصارعون على القيادة العامة ، كما أن كل واحد منهم كانت أحلامهالخاصة تراوده في التوسع والتملك . وكان أول الجيوش تحركًا ووصولاً إلى الدولة البيزنطية هو الجيش الرابع الصغير ، ولكنه كان تعيس المصير ؛ إذ سلك الطريق البحري ، وأصابته عاصفة شديدة بالقرب من سواحل الإمبراطورية البيزنطية ، فهلك الكثير منه ، وأنقذت فرقة من البحرية البيزنطية بقية الجيش ، وقابل الأمير هيو الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ، ولم يكن عجيبًا في مثل هذه الظروف أن يُقسِم الأمير يمين الولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي .. كما أقسم على أنه سيبذل كل جهده لتحرير البلاد التي أخذها المسلمون من سلطان الدولة البيزنطية , ولم يكن هذا الجيش - كما هو واضح - مؤثرًا بشكل من الأشكال في خط سير الأحداث . أما الجيش الذي وصل بعد ذلك فكان الجيش الأول ، وهو جيش جودفري بوايون ،ونحتاج إلى وقفة مهمة مع هذا الجيش . لقد سلك هذا الجيش الطريق البريّ الذي سلكه قبل ذلك بطرس الناسك ووالتر المفلس وبقية الحملات الشعبي , وبالتالي فسيمر على المجر وغيرها من المناطق التي تحمل ذكريات مؤلمة للأوربيين الغربيين ، وقد تصطدم هذه الجيوش مع ملك المجر القوي كولومان ؛ مما قد يعطِّل مسيرتها ويبدِّد قوتها ؛ لذلك قرَّر جودفري بوايون في ذكاء شديد أن يعقد اجتماعًا مهمًّا مع ملك المجر على الحدود الألمانية المجرية وقبل أن يدخل الأراضي المجرية ؛ ليعقد معاهدة مع هذا الملك يضمن فيها عدم المساس بأية ممتلكات ، وعدم إيقاع الضرر بأي إنسان مجريٍّ ، ولكي يطمئن ملك المجر إلى وفاء الأمير جودفري فإنه قرر أن يترك أخاه الأمير بلدوين رهينة عند ملك المجر لحين عبور الجيش الصليبي ، كما أصدر جودفري الأوامر المشددة لجيشه بعدم القيام بأي عمليات سلب أو نهب في المنطقة . وهكذا عبر الجيش الصليبي الأول مملكة المجر بأمان ، ثم عندما دخل إلى الأراضي البيزنطية قابل وفدًا للإمبراطور البيزنطي ، وذلك فيما بين بلجراد ونيش ، وتعهد لهذا الوفد أيضًا بعدم المساس بأية ممتلكات بيزنطية ، وفي المقابل تعهدت الإمبراطورية البيزنطية بتقديم كل ما يلزم الجيش الكبير من تموين ومساعدات حتى وصولهم إلى أرض المسلمين . ثم أكمل الجيش الصليبي طريقه حتى وصل إلى شاطئ بحر مرمرة عند مدينة سليمبريا Selymbria البيزنطية ، وذلك في 489هـ = منتصف ديسمبر 1096م - وهناك فَقَد جودفري بوايون السيطرة على جيشه الذي لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام ثراء المدينة ، فقام الجنود بسلب المدينة ونهبها . وكانت هذه الحادثة علامة إنذار واضحة للإمبراطور البيزنطي تخيفه من هذه الجنود التي أتت من غرب أوربا ، ووقف الإمبراطور البيزنطي يحلِّل الموقف بدقة ؛ إنه لم يأت بهؤلاء الجنود إلى هذا المكان ، ولم يستنجد بالبابا إلا ليدفع خطر المسلمين ، ويعيد إمتلاك ما أخذ منه على مدار السنوات القادمة ، وعلى هذا فالذي كان في حساباته أن هذه الجيوش ستكون كالجنود المرتزقة الذين تعوَّدت الإمبراطورية البيزنطية على إستيرادهم قبل ذلك ، فهم سيقومون بمهمة ثم يأخذون أجرهم ، وينتهي بذلك دورهم . أما ما رآه الإمبراطور البيزنطي من آثار الحملات الصليبية السابقة ، ومن جيش جودفري بوايون الآن فشيء يدعو إلى القلق العميق ؛ لأن هذه الجموع التي جاءت بنسائها وأولادها جاءت لتستقر ، كما أنها لا تحسب حسابًا للدولة البيزنطية العظمي .. ثم إن الجيوش الصليبية النظامية كبيرة وقوية ، وهذا الجيش الأول بقيادة جودفري جيش محترف وله بأس وقوة ، فكيف إذا اجتمعت الجيوش الصليبية كلها ؟! ثم إن الإمبراطور البيزنطي إسترجع بذاكرته قصة المغامر النورماندي رسل دي باليل Roussel De Bailleul الذي كان من الجنود المرتزقة المأجورة مع فرقته الإيطالية لدى الإمبراطورية البيزنطية ، ثم ما لبث أن أعلن عصيانه سنة 465هـ = 1073م - على الدولة البيزنطية وحاربها وأنزل بها ضررًا بالغًا ، ولم تنته قصته إلا بفَقْد عدد مهم من المدن البيزنطية أخذها السلاجقة المسلمون بعد الاتفاق مع الإمبراطور البيزنطي على التخلص من رسل باليل في مقابل أخذ ما يسيطرون عليه من المدن ، وإذا كان رسل باليل قد أحدث كل هذا الضرر بثلاثة آلاف مرتزقة كانوا معه ، فكيف سيكون الحال مع جيش كجيش جودفري ، أو المصيبة الكبري لو اجتمعت الجيوش الصليبية كلها على أمر واحد . لذلك قرر الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين أن يتعامل بالحزم من أول الأمر مع جودفري ، كما حرص كل الحرص على إنهاء مشكلته قبل أن يأتي جيش صليبي آخر فتزداد المشكلة تعقيدًا . فماذا فعل الإمبراطور البيزنطي ؟! لقد طلب من جودفري بوايون أن يقسم الولاء للإمبراطور البيزنطي ، وهذا يعني أنه سيقسم أن يكون تابعًا للإمبراطور البيزنطي في الأراضي التي يمتلكها المسلمون الآن ، وبالتالي فإن جودفري لو نجح في أخذها فسيأخذها لصالح الإمبراطور البيزنطي لا لصالح نفسه ، وبذلك يتحدد الوضع القانوني للبلاد منذ البداية ، ويحتفظ الإمبراطور بكل الحقوق للدولة البيزنطية . وكان هذا - لا شك - طلبًا قاسيًا ، وشرطًا في غاية الصعوبة ! إن جودفري بوايون يدين بالولاء لإمبراطور آخر قد تتعارض أهدافه وأوامره مع الإمبراطور الأول ، ثم إن جودفري جاء بناءً على دعوة الكنيسة الكاثوليكية ، فكيف يُعطِي ولاءه للإمبراطور الذي يرعى الكنيسة الأرثوذكسية ! ثم فوق ذلك وقبل كل ذلك إنه يريد لنفسه السيطرة والملك ، وليس في اعتباراته أيُّ حقوق ماضية أو وقائع تاريخية , إنه يتعامل بأسلوب القراصنة ، ولا يحتاج لمبرر كي يستولي على أملاك غيره !! ونتيجة لهذه العوامل فإن جودفري قرر أن يُسوِّف في الاستجابة لطلب الإمبراطور البيزنطي ، وذلك حتى تأتي بقية الجيوش الصليبية ، ومن ثَمَّ يستطيعون أخذ موقف موحَّد يحمي أحلامهم ، ولا يورِّطهم فيما لا يريدونه . غير أن الإمبراطور البيزنطي لم يعجبه هذا السلوك وأدرك أهداف جودفري ؛ ولذلك فقد قرر عدم الانتظار ، وأخذ قرار قطع التموين الغذائي عن جيش جودفري ، فما كان من الجيش الصليبي إلا أن ردَّ بسلب ونهب الضياع والقرى المحيطة بالقسطنطينية ، وتأثر الإمبراطور البيزنطي وقرر العدول عن رأيه ، وأعاد التموين للجيش الصليبي ، بل وإستضاف الجيش الصليبي في ضاحية بيرا Pera (وهي من ضواحي القسطنطينية) ، ولكنه ظل مطالبًا جودفري بأن يقسم له بالتبعية والولاء ، ولكن جودفري ماطل من جديد ، وظل على هذه المماطلة ثلاثة أشهر كاملة من يناير إلى آخر مارس سنة 1097م، بل إنه رفض أن يقابل الإمبراطور البيزنطي أصلاً . لكن في أوائل إبريل 1097م علم الإمبراطور البيزنطي أن الجيش النورماندي الإيطالي - وهو الجيش الخامس- قد قارب الوصول إلى القسطنطينية ، وكان يعلم قوة هذا الجيش وبأسه ، ولم يرد له أن يلتقي مع جيش جودفري إلا بعد الإنتهاء من مشكلة جودفري ؛ لذلك قرر من جديد أن يستثير جودفري بقطع الإمدادات عنه ، فردَّ جودفري بمهاجمة بيرا ونَهْبها ثم إحراقها ، بل قام بمهاجمة أسوار القسطنطينية نفسها ، وهنا إضطر الإمبراطور البيزنطي أن يخرج الجيش البيزنطي بكامل عدته وقوته ، فلم يستطع جودفري الصمود طويلاً أمامه ، وأدرك حجمه الحقيقي ؛ ومن ثَمَّ قرر في بساطة أن يغيِّر مبادئه وولاءه ، ويقسم يمين التبعية للإمبراطور البيزنطي ! وهكذا عقدت إتفاقية في أوائل إبريل 1097م ، أقسم بموجبها جودفري بوايون بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي ، وسُجِّل في هذه الاتفاقية أن كل الأراضي التي كانت مملوكة للدولة البيزنطية قبل موقعة ملاذكرد ستعود ملكيتها للدولة البيزنطية في حال تحريرها على يد جودفري وجيشه ، وهذا يعني أن طموح الدولة البيزنطية لا يقف على آسيا الصغرى فقط ، بل يشمل أيضًا مدن أعالي الشام والعراق مثل أنطاكية والرها ، بل إن بعض التفسيرات البيزنطية للإتفاقية شملت بيت المقدس نفسه على إعتبار أنه كان مملوكًا للدولة البيزنطية أيام الإمبراطور جستنيان (حكم من 527 إلى 565م) ؛ وهذا سيؤدي إلى صراع طويل بين البيزنطيين والصليبيين طوال القرن التالي لهذه الاتفاقية . وبعد هذه الاتفاقية أظهر الإمبراطور البيزنطي الوُدَّ الكبير لجودفري ، ومنحه كمًّا هائلاً من الهدايا القيمة ، غير أنه بسرعة نقله إلى آسيا الصغرى ليتجنب لقاءه مع جيش بوهيموند النورماندي ؛ وبذلك يستطيع أن يُملِي شروطه على بوهيموند بمفرده . وما إن عبر جودفري بجيشه إلى آسيا الصغرى حتى وصل بوهيموند النورماندي ! وكان هذا الجيش قد ركب البحر من إيطاليا ، ونزل عند مدينة أفلونا Avlona في ألبانيا ، ليخترق البلقان في طريقه إلى القسطنطينية .. وقد أفزع هذا الجيش الإمبراطور البيزنطي ، لا لقوته وبأسه فقط ولكن لتذكيره بما فعله رسل باليل النورماندي ، وكذلك ذكريات حصار القسطنطينية 473هـ = 1081م على يد الأمير بوهيموند نفسه ، الذي يأتي على رأس جيشٍ أضعاف الجيش القديم ، إضافةً إلى الجيوش الصليبية الأخري . كانت هذه مخاوف الإمبراطور البيزنطي ، غير أن بوهيموند قرر سلوك أسلوب آخر يضمن له المكاسب العظيمة ؛ لقد أدرك بوهيموند قوة الإمبراطورية البيزنطية ، وأدرك أيضًا أن الجيوش الصليبية لن تستطيع إحتلال البلاد الإسلامية دون مساعدة البيزنطيين ، وأدرك ثالثة الخلاف الذي حدث بين الإمبراطور البيزنطي وجودفري ، وكيف إنتهى هذا الخلاف بقسم جودفري بعد أن فَقَد هيبته . أدرك بوهيموند من البداية ذلك ، وبالتالي قد تتاح له فرصة أن يتزعم الجميع إذا ناصره في ذلك الإمبراطور القويّ ، وعليه فقد أمر بوهيموند جنوده بالسلوك الحسن أثناء سيرهم في الأراضي البيزنطية ، وتوجَّه مباشرة إلى القسطنطينية ، وعلى أسوارها ترك تانكرد إبن أخته على رئاسة الجيش ، وتوجَّه هو إلى مقابلة الإمبراطور ليعلن بين يديه دون مقاومة قسمه بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي ! ولكنه في ذات الوقت لم يعلن هذا القسم دون مطالب ، فقد طلب صراحة أن يمنحه الإمبراطور البيزنطي إقطاعية كبرى في منطقة أنطاكية ، وقد وافق الإمبراطور على هذا الطلب لتصبح هذه الإتفاقية بمنزلة الميلاد الأول لإمارة أنطاكية النورماندية فيما بعد ، وفوق ذلك فقد طلب بوهيموند من الإمبراطور البيزنطي أن يجعله قائدًا عامًّا لكل الجيوش المشاركة في الحروب ، غير أن الإمبراطور رفض هذا الأمر ، ولعله رفض ذلك لكي لا يُرضِي جيشًا على حساب آخر ، وبذلك تظل كل المفاتيح في يده هو دون أن يثير حفيظة أحد عليه . وبعد هذه الاتفاقية نقل الإمبراطور البيزنطي الجيش النورماندي إلى آسيا الصغرى ليحتل موقعه إلى جوار جيش جودفري بوايون ، وكان ذلك في 26 من إبريل سنة 1097م . وكان الجيش الثاني في الوصول هو جيش جنوب فرنسا والبروفنسال تحت قيادة الأمير ريمون الرابع أمير تولوز والبروفنسال ، والذي سلك طريقًا بريًَّا , ووصل إلى القسطنطينية في أواخر إبريل سنة 1097م بعد أن قام ببعض التجاوزات في الطريق ؛ مما حدا بالجيش البيزنطي أن يردعه في بعض المواقف .. وعند وصول هذا الجيش إلى القسطنطينية طلب الإمبراطور البيزنطي من الأمير ريمون الرابع أن يحذو حذو الأمراء السابقين ، ويقسم له بالتبعية والولاء ، ولكن هذا الطلب جاء متعارضًا تمامًا مع أحلام ريمون الرابع الذي كان يريد قيادة كل الجيوش بحكم أنه المبعوث الرسمي للبابا الكاثوليكي ، وفي جيشه أديمار المندوب البابوي ، فكيف يقسم الآن لراعي الكنيسة الأرثوذكسية .. ثم إنه رأى أن منافسه اللدود بوهيموند النورماندي قد أصبح صديقًا حميمًا للإمبراطور ، وهذا يعني أن ريمون إن أقسم بالولاء للإمبراطور فقد يجعله تحت سيطرة إمرة بوهيموند ، وهذا ما لا يقبله ريمون أبدًا ؛ لذلك أعلن ريمون الرابع رفضه تمامًا لهذا القسم ، وأعلن أنه ما جاء إلى هنا إلا للمحاربة من أجل السيد المسيح لا من أجل الإمبراطور البيزنطي ، لكن الإمبراطور أصرَّ على هذا الطلب مما أنذر بصدام مسلح قريب ، وزاد الطينة بلة أن بوهيموند أراد الصيد في الماء العكر ، وذلك بإعلانه أنه في حال الصدام بين ريمون الرابع والإمبراطور البيزنطي ، فإنه سينضم بقواته النورماندية القوية إلى الإمبراطور البيزنطي ! وهنا تدخل جودفري بوايون وأقنع ريمون الرابع أن يرضخ للإمبراطور لقرب مواقع المسلمين ، وأن إحتمال هجومهم على الصليبيين قريب ، فوافق ريمون على حلٍّ وسط يحفظ له ماء وجهه ، وهو أن يقسم على إحترام حياة الإمبراطور وشرفه ، وألا يرتكب أمرًا يغضب الإمبراطور .. وإزاء هذه الأزمة قَبِل الإمبراطور بهذا الحل ، بل إنه إجتمع بريمون الرابع اجتماعًا خاصًّا ذكر له فيه بدهاء أنه لا يطمئن لإعطاء بوهيموند إمارة الجيوش كلها ، ولقد أتت هذه التصريحات أُكُلها ، وهدأت نفس ريمون ، وقرَّر أن يتحالف بقوة مع الإمبراطور البيزنطي . أما الجيش الأخير وهو جيش روبرت أمير نورمانديا ومعه ستيفن أمير بلوا ، فقد وصل متأخرًا عن بقية الجيوش ، وكان قد جاء عن طريق إيطاليا ثم ركب البحر إلى البلقان ، ومنها إخترق الدولة البيزنطية إلى القسطنطينية ، ولم يُسبِّب أية مشكلة في طريقه ، ولم يمانع زعيمَا هذا الجيش في القسم بالتبعية والولاء لإمبراطور الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ تم إغداق الهدايا عليهما ، ثم ساعدهما الإمبراطور في عبور البسفور إلى آسيا الصغرى ليلحق هذا الجيش بالجيوش التي سبقت . بهذا تكون الجيوش الخمسة قد وصلت ، ولم تخسر في الطريق شيئًا تقريبًا من قواتها ، اللهم إلا ما حدث للجيش الرابع من هلكة في البحر إثر العاصفة البحرية ، ولكنه كان جيشًا صغيرًا غير مؤثِّر ، وبهذا وصلت الأعداد الغفيرة إلى آسيا الصغرى بلاد المسلمين ! ومن المهم الآن أن نذكر أن أقل تقدير للمقاتلين الرجال في هذه الحملة الهائلة كان ثلاثمائة ألف مقاتل ، بينما يصطحبون معهم نساءهم وأطفالهم بأعداد ضخمة وصلت بالحملة إلى مليون إنسان ! وقوم جاءوا معهم بسبعمائة ألف امرأة وطفل جاءوا ليستوطنوا لا ليحاربوا قومًا ثم يعودوا ! أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي فإنه رفض عرضًا من الصليبيين بقيادة الجيوش بنفسه ، وآثر أن يبقى في القسطنطينية الحصينة ملقيًا بالجيوش الصليبية في التجربة ، غير أنه حرص على إمداد الجيوش الصليبية بالمؤن اللازمة، وبالعيون والأدِلاَّء الخبيرة ، وأيضًا ببعض الضباط البيزنطيين أصحاب الخبرة في حروب المسلمين ، وهكذا صار الصدام بين الصليبيين والمسلمين قاب قوسين أو أدني . | |||
09-19-11, 10:37 AM | رقم المشاركة : 7 | |||
|
رد: قصة الحروب الصليبية
الصدام مع السلاجقة الروم كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى يتخذ من مدينة نيقية الحصينة عاصمة له ، ومن ثَمَّ فالقوة الرئيسية لجيشه كانت بها ؛ ولهذا فقد قرَّر الصليبيون أن يبدءوا بهذه المدينة لكي لا يتركوا خلفهم هذه القوة الكبيرة ، ولكي لا يقطعوا على أنفسهم خطوط الإمداد البيزنطية ومن ثَمَّ توجهت الجيوش الصليبية الغفيرة ، ومعها فرقة صغيرة من الجيش البيزنطي لحصار المدينة المسلمة ، وقد أمدَّ الإمبراطور البيزنطي الجيوش الصليبية في هذه الموقعة بآلات الحصار الضخمة وكثير من السلاح ، وبدأ التوجه إليها في 490هـ - أواخر إبريل سنة 1097 .. أين كان قلج أرسلان الأول في ذلك الوقت ؟! إنه يجدر بنا قبل أن نعرف مكانه أن نأخذ فكرة عن شخصيته ومكانته ! إنه واحد من أهم السلاجقة في تاريخ آسيا الصغرى ، لا لشخصيته ومكانته فقط، ولكن للأحداث الضخمة التي حدثت في عهده وغيَّرت خريطة المنطقة تغييرًا جذريًّا ، إنه ابن سليمان بن قُتُلْمِش أعظم سلاجقة الروم ومؤسِّس دولتهم ، وقد ورث قلج أرسلان عن أبيه شدة البأس في القتال وحسن التخطيط في الإدارة والمعارك ؛ ولذلك إستطاع مع صغر سنِّه عند تولِّيه الحكم - فلم يزِدْ على السابعة عشرة من عمره - أن يصبح الشخصية الأولى في منطقة آسيا الصغرى بكاملها ، ومع هذه الكفاءة الإدارية والعسكرية إلا أننا لا نلمح في حياته توجهًا إسلاميًّا واضحًا ، أو رغبة حقيقية في توحيد صفِّ المسلمين ، إنما كان همُّه الأول هو توسيع الرقعة التي يحكمها ، وتكثير الأتباع له؛ لذلك نجده لا يتردد كثيرًا في حرب المناوئين له ، وإن كانوا من المسلمين ، أو حتى من نفس عائلته التركية الكبرى ، أو السلجوقية نفسها ! وهذا الحب للتوسع كان أحيانًا يعمي بصره عن رؤية الأخطار على حقيقتها ، فيهمل أحيانًا خطرًا ساحقًا، ويهتم أحيانًا بمشكلة بسيطة ، مما يستغرب جدًّا من رجل مثله له كفاءة معلومة كما ذكرنا ، وليس هذا إلا لأنه لم يكن - فيما يبدو لي - ينظر إلى مصلحة المسلمين ، ولكن إلى مصلحته هو في المقام الأول . أين كان إذن قلج أرسلان الأول وقت تدفق القوات الصليبية الهائلة صوب مدينة نيقية العاصمة ؟! لقد كان خارج مدينته ، بل وعلى بُعد أكثر من تسعمائة كيلو متر إلى الشرق من المدينة ! لقد كان يحاصر مدينة ملطية ذات الكثافة الأرمينية ، حيث قام بينه وبين الزعيم المسلم غازي بن الدانشمند - وهو أحد الأتراك المسلمين الذين كانوا يحكمون شمال شرق آسيا الصغرى - نزاعٌ كبير حول ملكية هذه المدينة .. وهذه الرغبة الجامحة للتوسع في مناطق جديدة جعلته لا يصرف كثير اهتمام إلى مسألة الصليبيين على خطورتها ، بل إنه عندما علم بقدوم الجيوش الصليبية مؤخرًا إلى القسطنطينية ظنَّ أنها مثل جموع العامة الذين جاءوا قبل ذلك ، ومن ثَمَّ توقع أن يقضي عليهم بفرقة من جيشه بسهولة ، كما فعل مع جموع بطرس الناسك ووالتر المفلس , إضافةً إلى أنه خُدِع بمكيدة دبَّرها الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين ، حيث أرسل بعض جواسيسه إلى قلج أرسلان الأول يُصوِّرون له الخلاف الذي كان بين الإمبراطور البيزنطي وزعماء الحملة الصليبية على أنه مستحكم لا حلَّ له ، وبالتالي فلن يسمح الإمبراطور البيزنطي لهؤلاء الصليبيين بالعبور إلى آسيا الصغرى ، وهذا الخداع خدَّر قلج أرسلان ، وجعله يترك حامية صغيرة نسبيًَّا في مدينة نيقية العاصمة ، ويتوجه بجيشه الرئيسي لحصار ملطية البعيدة .. ومما يؤكد أنه كان مخدوعًا أنه ترك زوجته وولديه وكل أمواله وكنوزه في المدينة ، ولو كان يشعر بأيِّ خطر ناحيتها ما فعل ذلك أبدًا .. تدفقت الجيوش الصليبية الضخمة حول المدينة الحصينة ، وبدأ الحصار يوم 21 من جمادى الأولى 490هـ - 6 من مايو 1097 ، وكان الحصار من الجهات الثلاثة للمدينة بإستثناء الجهة الغربية التي كانت تطل على بحيرة طولها اثنا عشر ميلاً ، ولم يكن مع الجيوش الصليبية قوة بحرية تسمح لهم بإغلاق هذا المنفذ وبعد أسبوع من الحصار بدأ الصليبيون في قصف أسوار المدينة وأبراجها بالمجانيق التي أمدهم بها الإمبراطور البيزنطي .. صمدت المدينة في بادئ الأمر ، وبادلت الجيش الصليبي إطلاق السهام المسمومة ، وألقت عليهم الكلاليب المحمومة ، وأحدثت إصابات بالغة في الصليبيين، غير أنها لم تستطع فك الحصار , وبالتالي أرسلت رسالة عاجلة إلى قلج أرسلان تطلب النجدة السريعة ! أدرك قلج أرسلان خطورة الأمر ، فتحرك بسرعة صوب عاصمته بعد أن رفع الحصار عن ملطية ولكن طول المسافة ووعورة الطريق حالت دون وصوله بسرعة ، في هذه الأثناء أرسل الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين مندوبًا سريًّا إلى داخل المدينة ، وهو القائد العسكري بوميتس ، ليتفاوض مع الحامية المسلمة ليسلموا له المدينة بدلاً من سقوطها في يد الصليبيين، وخوَّفهم أن الصليبيين في غاية التوحُّش ، وسوف يقومون بقتل كل من في المدينة عند سقوطها , وهذا في الواقع أمر صحيح رأيناه - بعد ذلك - في بيت المقدس وغيره من المدن التي أسقطها الصليبيون . أما لماذا حاول الإمبراطور التفاوض مع الحامية المسلمة دون علم الصليبيين ؛ فلأنه كان يتوقع الغدر منهم ، وعدم الالتزام بإتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم كل المدن التي كانت تحت سيطرة الدولة البيزنطية سابقًا إلى الإمبراطور البيزنطي حين سقوطها .. والواقع أن الحامية المسلمة بدأت تفكر في عرض الإمبراطور جديًّا ، وخاصةً أنه وعد بحفظ دماء المسلمين وعدم نهب البلد ، وحمايتها من الصليبيين .. ثم إنه أقدم على خطوة أخرى ماكرة تحقِّق المنفعة للإمبراطورية من وجهتين ؛ وهو أنه سمح عن طيب خاطر للإمدادات المسلمة أن تصل عن طريق البحرية إلى المدينة المحاصرة ، وكان قادرًا على منعها بإستخدام الأسطول البيزنطي القوي ، وإنما فعل ذلك ليقنع الصليبيين من جهة أنهم لا يستطيعون الإستغناء عنه في حروبهم ، ومن جهة أخرى لتطمئن الحامية المسلمة أنه سيفي بعهده لهم إنْ هم سلَّموا له المدينة .. وبينما تفكر الحامية المسلمة في الأمر إذْ وصل قلج أرسلان الأول بجيشه ، وذلك في (490هـ - يوم 21 من مايو 1097 وإشتبك بمجرَّد وصوله مع الجيوش الصليبية لفتح طريقٍ إلى داخل المدينة ، ولكنه - للأسف - لم يستطع ، وأدرك أنه لن يفلح في فك الحصار ، بل إنه يَئِس من معركة يومٍ واحد ، وإنسحب بعيدًا ليترك مدينته تلقى مصيرها وهي واقعة بين شقي الرَّحَى : الصليبيين من ناحية ، والدولة البيزنطية من ناحية أخرى ! أكمل الإمبراطور البيزنطي لعبته بأن أخرج سفنه القوية لتمنع الإمداد البحري عن المدينة المسلمة، وبدأت المدينة تشعر بالأذى الشديد وتتوقع اللهكة القريبة ، وخفَّت مقاومتها جدًّا ، وأدرك الصليبيون أهمية الإمبراطور البيزنطي . وأدركت الحامية المسلمة أيضًا أهمية هذا الإمبراطور الداهية، فأسرعت الحامية قبل السقوط بقبول عرض الإمبراطور الذي سعد بذلك جدًّا وأسرع بالموافقة، ومن ثَمَّ فوجئت الجيوش الصليبية بعد خمسة أسابيع من الحصار بالأَعْلام البيزنطية ترتفع فجأة على أبراج المدينة كلها ، وليأتي مندوب الإمبراطور ليعلن أن المدينة أصبحت بيزنطية ، وليمنع الجيوش الصليبية من دخول المدينة خوفًا من نهبها , وليوضع بوتوميتس قائدًا عسكريًّا على المدينة .. وقرر الإمبراطور أن يتم عهده ويحفظ دماء المسلمين ، بل إنه أعلن أنه على إستعداد لإعادة زوجة قلج أرسلان وأخته وولديه إلى قلج أرسلان دون مقابل .. أثار ذلك حنق الصليبيين وشعروا أنهم قد خُدعوا ، وغضبوا جدًّا للتسامح الذي أبداه الإمبراطور مع أهل المدينة ، وكانوا يريدونها عبرة لكل المدن ، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء بعد أن علموا أنهم يتعاملون مع قائد قويّ محنك صاحب خبرة طويلة ، ويقود دولة تضرب جذورها في أعماق التاريخ .. أما الإمبراطور البيزنطي فقد حفظ وعده بالفعل ، ولا أعتقد - كما يحلِّل بعض المؤرخين - أنه فعل ذلك حبًّا في الأخلاق الحميدة ، ولكن الذي يبدو لي ويستقيم مع سيرته وقصة حياته أنه يريد أن يستغل هذه الحادثة لإيقاع بقية المدن الإسلامية في آسيا الصغرى ، فلو كانت الجيوش الصليبية تقدِّم الترهيب فهو يقدِّم الترغيب ، ولو تعاون الصليبيون مع الأرمن الكاثوليك ، فسيتعاون هو مع المسلمين ! إنها حرب المصالح ، ومباراة الاستحواذ .. والذي يثبت ذلك أنه بعد السيطرة على قونية أخذ زوجة قلج أرسلان وولديه وتوجه إلى أقاليم مسيا Mysia وأيوينا ولسيديا في غرب آسيا الصغرى ، وبدأ يساوم المدن هناك على التسليم في مقابل دمائهم ودماء زوجة قلج أرسلان وولديه .. وقد نجحت خطته وسلَّمت تلك المدن بسهولة ، وما هي إلا فترة بسيطة حتى صارت كل مدن غرب آسيا الصغرى تابعة للدولة البيزنطية , إنه كان واضحًا أن الأمة الإسلامية في طور ضعفٍ شديد ، وتتهاوى بسرعة ، وكان السباق محمومًا بين الصليبيين والدولة البيزنطية لاقتسام الميراث الضخم : ميراث المسلمين ! ومع أن سقوط نيقية كان سقوط مدينة واحدة إلا أن الآثار المترتبة على سقوطها كانت هائلة : أولاً : إرتفعت جدًّا معنويات الجيش الصليبي ، وزالت من النفوس أزمة سحق حملة الجموع الشعبية بقيادة بطرس الناسك ووالتر المفلس ، ومن ثَمَّ ظهر التصميم عند القادة والجنود في غزو العالم الإسلامي ، على الرغم من الإصابات البالغة التي لحقت بالجيش في أثناء حصار نيقية ، أو في أثناء القتال مع قلج أرسلان .. ثانيًا : إرتفعت جدًّا المعنويات في أوربا بعد الإحباط الذي عانت منه بعد مصيبة الحملات الشعبيَّة، وأدى هذا الارتفاع في المعنويات إلى تحميس جموع أخرى ، وبالتالي ازداد تدفق الجيوش الصليبية من أوربا إلى آسيا الصغرى والشام ، وبدأت الموانئ الإيطالية تفكر جديًّا في المشاركة في الحملات بصورة أساسية .. ثالثًا : إرتفعت أيضًا معنويات الدولة البيزنطية ، حيث كان سقوط نيقية يمثِّل أول ثأر لكرامة الدولة البيزنطية بعد هزيمة ملاذكرد الشهيرة سنة 463هـ ، أي منذ أكثر من 27 سنة ، وهذا رفع جدًّا من أسهم الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين .. رابعًا : نتيجة إرتفاع معنويات الدولة البيزنطية تحركت بقوة مستغلِّة اضطراب السلاجقة ، وبالتالي ضمت معظم أراضي غرب آسيا الصغرى إلى حوزة الإمبراطورية البيزنطية , كما بدأت الإمبراطورية في مهاجمة عدة مدن أخرى في شمال آسيا الصغرى وعلى ساحل البحر الأسود ولقد ظل غرب الأناضول بيزنطيًّا لمدة تزيد على ثلاثة قرون بعد موقعة نيقية ! خامسًا : في مقابل هذا الإرتفاع الواضح في معنويات الصليبيين والبيزنطيين على حدٍّ سواء ، كان هناك هبوط حاد في معنويات المسلمين : جيشًا وشعبًا ، وقادةً وجنودًا ؛ فهذا سقوطٌ لأحصن مدن آسيا الصغرى ، مما يعني أن سقوط المدن الأخرى سيكون أسهل ، ثم إن هذا إتحاد بين عملاقين كبيرين : الصليبيين الغربيين والبيزنطيين الشرقيين ، مما يعني أن الأيام الفادمة أصعب من التي مرت ! سادسًا : من الآثار المهمة لهذه الموقعة إزدياد الرواسب النفسية السيئة بين الصليبيين والبيزنطيين ، مما سيكون له أبلغ الأثر في خط سير الحملات بعد ذلك ؛ فهذا الإمبراطور يتصرف في سرية بعيدًا عن زعماء الصليبيين لمصالحه الخاصة ، وهؤلاء الزعماء يحنقون على الإمبراطور ويتوجسون منه خيفة ، وكان من الواضح أن هناك نارًا شديدة تحت الرماد ، وهذا الذي دعا الإمبراطور البيزنطي إلى الإصرار على أن يجتمع زعماء الصليبيين بعد الموقعة وقبل استكمال الغزو ، وأن يعيدوا القسم له بالتبعية والولاء ، وقد فعلوا جميعًا ذلك مرغمين ، وإن كان بوهيموند قد أسرع لذلك دون تردد؛ ليستمر في كسب صداقة الإمبراطور ، غير أن ريمون الرابع أصرَّ على عدم القسم بالولاء والتبعية ولكنه كرَّر قسمه بتعظيم حياة الإمبراطور ، أيضًا لم يقسم تانكرد إبن أخت بوهيموند ، حيث لم يُقسِم من البداية مكتفيًا بقسم خاله بوهيموند ، وهذا سيكون له آثار فيما بعد على قراراته وتحركاته . سابعًا : حدث نشاط أرمني ملحوظ نتيجة الهزيمة التي مُني بها السلاجقة ، وأيضًا نتيجة دخول الصليبيين الكاثوليك القريبين من الأرمن على عكس البيزنطيين الأرثوذكس ؛ ومن هنا سيظهر تعاون ملحوظ بين الأرمن وبين الصليبيين ، وظهرت دعوات من المدن ذات الكثافة الأرمينية تدعو الصليبيين إلى القدوم إليها ، وخاصةً في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى ، وهذا سيؤثر في خط سير الحملات الصليبية . ثامنًا : عسكريًّا فإن الطريق فُتح إلى وسط آسيا الصغرى ، حيث كانت نيقية هي العقبة الكبرى في الطريق ، وبالتالي فإن فرصة الصليبيين أصبحت كبيرة للوصول إلى عمق آسيا الصغرى ، بل وبلوغ بلاد الشام .. تاسعًا : بعد سقوط نيقية أسرع قلج أرسلان إلى مدينة قونية، واتخذها عاصمة جديدة له أو إن شئت فقل : قاعدة عسكرية جديدة له ينطلق منها في حربه ضد الصليبيين ، وهي مدينة على بُعد أربعمائة كيلو مترٍ من نيقية إلى الجنوب الشرقي منها ، وهي وإن لم تكن في نفس حصانة نيقية إلا أنها كانت حصينة أيضًا . عاشرًا : قرر قلج أرسلان زعيم السلاجقة الروم وغازي بن الدانشمند زعيم التركمان تناسي خلافاتهما مؤقتًا ، وتشكيل جبهة متحدة لحرب الصليبيين ، وهذا الإتحاد وإن كان نقطة إيجابية إلا أنه كان هشًّا ؛ لعمق الخلافات بين الفريقين وقدمها ، ولغياب الدافع الإسلامي الواضح للوَحْدة أو للقتال ، وإنما كان إتحادهما لغرض الحفاظ على أملاكهم لا حمية للدين . ولعلنا إن أردنا أن نحلِّل أسباب هذه الهزيمة القاسية للمسلمين ، فإننا سنلحظ بعض الأسباب التي ستتكرر في كل المواقع التي سيخسر فيها المسلمون ؛ لأن هذه سُنَّة ثابتة في كل الأزمان. ومن أهم الأسباب التي تظهر لنا : أولاً : غياب التوجُّه الإسلامي والحميَّة الدينية عند المقاتلين المسلمين ، وشتان بين مَن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ومن يقاتل من أجل مصلحته وحياته الخاصة . ثانيًا : الصراعات المستحكمة بين المسلمين ، وتفرُّق كلمتهم ، والنزاع الدائر بينهم على معظم الجبهات ، والله عزوجل يقول في كتابه : (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فالتنازع - كما هو واضح من الآية - سببٌ رئيسي من أسباب الفشل وذهاب الريح . ثالثًا : عدم إكتراث المسلمين في الشام والعراق وشرق العالم الإسلامي ومصر بالحدث ، وترك سلاجقة آسيا الصغرى يواجهون الأمر بمفردهم ، وهذا سيكون له المردود السلبي على الجميع بعد ذلك . رابعًا : غياب الإستعداد العسكري المناسب، حيث كانت مخابرات السلاجقة ضعيفة لم تدرك كل هذه التحركات الصليبية إلا بعد فوات الأوان ، بينما بذل الصليبيون والبيزنطيون الجهد كله في الإعداد لهذا اليوم ، ولا بد لمن بذل أن يجد نتيجةً لجهده وإعداده . كانت هذه مجموعة من أهم الأسباب التي أدت إلى هزيمة نيقية وسقوطها ، وهي أسباب إن وجدت في أي جيل فلا شكَّ أنه سيعاني من نفس الهزيمة ، وسيقع في نفس المشكلات والأزمات . ماذا فعل الصليبيون بعد سقوط نيقية ؟! لقد قرر الصليبيون الإنطلاق مباشرة بعد راحة أسبوع واحد ، وذلك في الإتجاه الجنوبي الشرقي صوب قونية العاصمة الجديدة لقلج أرسلان ، وقد قسَّم الصليبيون جيشَهم إلى نصفين ؛ أما النصف الأول فكان نورمانيًّا خالصًا حيث كان يضم نورمان إيطاليا ، وعلى رأسهم بوهيموند وتانكرد ، وأيضًا نورمان فرنسا بقيادة روبرت وستيفن ، وكانت الرئاسة العامة لهذا النصف مع بوهيموند ، وقد صحبت هذا القسم فرقة من الجيش البيزنطي ، عليها القائد الخبير تاتيكيوس .. أما القسم الثاني من الجيش الصليبي فكان مكوَّنًا من جنوب فرنسا بقيادة ريمون الرابع، وأيضًا جنود شمال فرنسا واللورين بقيادة جودفري ، وكانت القيادة العامة في هذا القسم لريمون الرابع .. وسارت الجيوش بشكل متوازٍ يفصل بينهما حوالي عشرة كيلو مترات ، على أن يكون اللقاء في منطقة خرائب مدينة دوريليوم وهي على بُعد حوالي مائة كيلو متر من نيقية في اتجاه الجنوب الشرقي . وقد إنقسم الجيش الصليبي إلى نصفين لعدة أهداف ؛ منها أن هذا أفضل في تموين الجيش حيث يعتمد الجيش على الغذاء من المحاصيل الموجودة في المزارع بالطريق ، وأيضًا يعتمد الجيش على الماء في العيون والآبار الموجودة بالمنطقة ومنها سلاسة الحركة وسرعتها حيث لا تستوعب الطرق الموجودة - مهما إتسعت - لأعداد المقاتلين الهائلة . ومنها القضاء على جيوب فرق السلاجقة المتناثرة هنا وهناك ومنها التمويه على المخابرات السلجوقية ، حيث من الممكن أن تتصدى لأحد القسمين على اعتبار أنه الجيش بكامله ، وهذا - لا شك - سيؤدِّي إلى خلل كبير في خطة القتال ، وهو ما حدث بالفعل مع هذه الجيوش العملاقة . وصل أحد الجيشين الصليبيين - الذي كان برئاسة بوهيموند - إلى منطقة دوريليوم حيث وجد الجيش الإسلامي منتظرًا في هذه السهول والمرتفعات ؛ والجيش الإسلامي كان عبارة عن جيش قلج أرسلان المتَّحِد مع جيش غازي بن الدانشمند .. وكما توقع الصليبيون فقد ظنَّ الجيش الإسلامي أن جيش بوهيموند هو كل الجيش الصليبي ، على الأقل في هذه المنطقة ، ودارت معركة كبيرة بين الجيشين في (490هـ) 1 من يوليو 1097م، ودارت رَحَى المعركة في بداية الأمر على الجيش الصليبي ، وتوقع المسلمون أن يتم لهم النصر بعد لحظات ، لولا ظهور جيش ريمون الرابع وجودفري دي بوايون فجأةً وإشتراكه المباشر في المعركة ؛ مما أدى إلى إنقلاب الأوضاع ، وتبدُّل الحال ، وسيطرة الصليبيين على مجريات القتال ، على الرغم من إصابة بوهيموند النورماني , وما هي إلا لحظات حتى ظهر الضعف على الجيش الإسلامي ، وحلت به الهزيمة المُرَّة ، وإنسحب قلج أرسلان بسرعة إلى داخل الأناضول ، مخلِّفًا وراءه كمًّا هائلاً من المؤن والغنائم ، ليتحقق للصليبيين نصر ثانٍ كبير ، يُعرف في التاريخ بموقعة دوريليوم .. وهكذا تعمقت آثار سقوط نيقية بعد هزيمة دوريليوم ، وإرتفعت معنويات الصليبيين والبيزنطيين والأرمن أكثر وأكثر ، وهبطت معنويات الجيش الإسلامي للحضيض ، حتى إنَّ قلج أرسلان ما جَرُؤ بعد ذلك على مواجهة الجيش الصليبي وجهًا لوجه ، بل إنه أخلى كل المدن والقرى التي في الطريق ، حيث واصل الصليبيون زحفهم ليتسلموا المناطق الواسعة دون قتال يُذكر ، بل الأدهى من ذلك أن الصليبيين وجدوا مدينة قونية - التي كان قلج أرسلان قد إتخذها عاصمة جديدة بعد سقوط نيقية - خاليةً تمامًا من السكان اللهم إلا بعض الأرمن ، فإحتلوها في يسرٍ ، ثم تجاوزوها إلى مدينة هرقلة ، فإحتلوها أيضًا ، ثم إتجهوا إلى الشمال الشرقي ليحتلوا مدينة قيصرية ، ثم إجتازوا مجموعة من سلاسل جبال طوروس ليصلوا إلى مدينة مَرْعَش وهي مدينة غالب سكانها من الأرمن) ، فإستقبلوا الصليبيين بحفاوة ، وتسلَّم الصليبيون المدينة في 490هـ - 13 من أكتوبر 1097م . ومن الجدير بالذكر أنه حتى هذه اللحظة فإن الجيوش الصليبية كانت تسلِّم الدولة البيزنطية كل ما يُفتح من المدن ، وهو ما اتفق عليه قبل ذلك في إتفاقية القسطنطينية ، وإن كان من الواضح أن هذا لم يكن عن طيب خاطر، ولكن لإضطرارهم إلى الخبرة البيزنطية وآلات الحصار والأدِلاَّء ، وما إلى ذلك من وسائل مساعدة . وكان من الواضح أيضًا أن الصليبيين سينتهزون فرصة قريبة للخروج من هيمنة الدولة البيزنطية ، فهم لم يقطعوا كل هذه المسافات، ولم ينفقوا كل هذه الأموال والأرواح حبًّا في النصارى الأرثوذكس ، أو رغبة في ردِّ كرامة الإمبراطورية البيزنطية ، إنما كان الهدف في الأساس هو الامتلاك الشخصي لكل أمير من أمراء الحملة ، والتمتُّع بثروات الشرق ، وهذا ما سيظهر في الخطوات القادمة من حركة الحملة الصليبية . ولعل أول مظاهر هذه الرغبة التوسعية ظهرت عندما إنفصل تانكرد النورماني إبن أخت بوهيموند ، ومعه بلدوين أخو جودفري بوايون ، ليقوما بغزو إقليم قليقية صاحب الكثافة الأرمينية ، وكانت بداية انفصال هاتين السريتين من جيش الصليبيين في 490هـ - 14 من سبتمبر 1097م ، وتوجها مباشرةً إلى مدينة طرسوس وذلك في (490هـ - 21 من سبتمبر 1097 . وكانت سرية تانكرد أسرع في الوصول إلى مدينة طرسوس ، وإشتبكت في صراع مع الحامية التركيَّة في داخل المدينة، وصبرت الحامية التركية لولا ظهور جيش بلدوين ، فأدركت الحامية أن الأمل ضعيف في المقاومة ، لذلك أخلت المدينة ودخلها تانكرد أولاً ، ورفع أعلامه عليها متناسيًا إتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم المدينة إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وإستقبله السكان الأرمن بالترحاب ولكن بلدوين لم يعجبه هذا الأمر فثار وغضب ، وكاد يدخل في صراعٍ مع تانكرد ، ولم يكن غضبه لصالح الدولة البيزنطية بالطبع ، وإنما كان غضبه لنفسه؛ فقد كان يريد المدينة له لا لتانكرد .. وفي النهاية قَبِل تانكرد أن يترك المدينة لبلدوين ، وإتجه هو إلى مدينة أخرى هي موبسواسطيه، ورفع بلدوين أعلامه على المدينة طامعًا أن تكون ملكًا شخصيًّا له .. وفي هذه الأثناء حدث أمران غيَّرا من سير الأحداث في منطقة طرسوس ؛ أما الأمر الأول فهو أن بوهيموند كان قد أرسل ثلاثمائة من الجنود نجدةً إلى تانكرد إبن أخته، فوصل هؤلاء الجنود ليلاً إلى مدينة طرسوس ، فوجدوا أن تانكرد قد غادرها ، والمدينة أصبحت بيد بلدوين ، فطلبوا المبيت إلى الصباح في داخل المدينة، ولكن بلدوين رفض دخولهم وأجبرهم على المبيت خارج المدينة ، فناموا في العراء فدهمتهم فرقة من الأتراك وأبادوهم عن آخرهم ووصل هذا الأمر إلى الجيوش الصليبية ، فحنقت أشد الحنق على بلدوين الذي كان سببًا في هلاك هذه الفرقة .. وأما الأمر الثاني فهو أن أحد الأرمن المقرَّبين من بلدوين نصحه أن يترك هذه المدينة المحدودة ، ويتجه إلى مدينة الرها على شاطئ الفرات ؛ لأنها أخصب وأوسع وأعظم كثيرًا من طرسوس . طمع بلدوين في نصيحة الأرمني ، وترك المدينة متجهًا ناحية الشرق ، وفي الطريق وجد تانكرد على أبواب مدينة موبسواسطيه ، فدار بينهما قتال بسبب الفرقة الإيطالية التي هلكت خارج أسوار طرسوس ، ثم تصالحا في النهاية وأكملا الطريق لملاقاة الجيش الصليبي الرئيسي المتجه إلى أنطاكية . ولكن عند وصولهم إلى الجيش الصليبي إجتمع زعماء الحملة الصليبية على لوم وتقريع بلدوين بما فيهم أخوه جودفري بوايون ، واستغل بلدوين هذا اللوم والعتاب ليغضب وينسحب بجيشه من الجيوش الصليبية الرئيسية متجهًا ناحية الرها في الشرق ، متناسيًا تمامًا قصة بيت المقدس والحجيج النصارى ، فلم يكن له همٌّ إلا تأسيس مملكة خاصَّة به ، وإن كانت بعيدة كل البعد عن بيت المقدس وطريق الحجيج . وبالفعل خرج بلدوين من الجيش وإتجه إلى الرها ، وفي الطريق سلَّمت له كل المدن دون قتال ، وغالبية سكانها كانت من الأرمن، ثم وصل إلى الرها ، وإستقبله أهلها الأرمن بالترحاب ، وكان هذا على غير رغبة أميرها اليوناني ثوروس Thoros ، الذي كان يدفع الجزية قبل ذلك للمسلمين وكان يأمل أن يستقلَّ بالمدينة لنفسه ليصبح تابعًا للدولة البيزنطية لا لبلدوين ، غير أن الأمير تعامل مع الأمر في واقعية ، وقرر أن يأخذ حلاًّ وسطًا ، وهو أن يعرض على بلدوين أن يصبح بمنزلة ابنه - وكان هذا الأمير مسنًّا - ومن ثَمَّ يُصبح الوريث الشرعي له على مدينة الرها وما حولها من مدن وقرى ، وهي منطقة غنية خصبة ، فوافق بلدوين على ذلك ، ودخل المدينة ، ثم إنه إتفق مع بعض الأرمن في المدينة على الغدر بثوروس ، وبالفعل قتلوه ، ليتسلم بلدوين مقاليد الحكم في المدينة ، وليؤسِّس أول إمارة صليبية في العالم الإسلامي ، وهي إمارة الرها ، وذلك في 491هـ - مارس سنة 1098 .. ولما كانت الحامية الصليبية في منطقة الرها صغيرة ، والشعب بكامله من الأرمن تقريبًا ، فقد إتخذ بلدوين عدة خطوات لتثبيت أركان إمارته ، وعدم السماح بحدوث قلاقل أو إضطرابات .. كان من هذه الخطوات التزاوج بين الصليبيين الغربيين والأرمن ، وبدأ بلدوين بنفسه حيث تزوج من الأميرة الأرمينية أردا Arda ، وهي إبنة أحد زعماء الأرمن .. وكان من هذه الخطوات أيضًا توسيع رقعة إمارة الرها ، وذلك على حساب العدو اللدود للأرمن وهم الأتراك، فاتجه بجيش مشترك من الصليبيين والأرمن إلى مدينة سُمَيْساط، وهي على بُعد مسيرة يوم من الرها (45 كيلو مترًا شرقي الرها) ، وكان على رأسها أحد السلاجقة الأتراك ، الذي أدرك من الوهلة الأولى أنْ لا طاقة له بحرب الجيش الصليبي الأرمني ، وخاصةً بعد الهزائم المتتالية للسلاجقة في آسيا الصغرى ، وعدم إهتمام سلاجقة فارس أو الشام بالأمر حتى هذه اللحظة ، وهذا الإحباط دفعه إلى فعل شنيع ؛ إذ طلب من بلدوين أن يقبل بشراء سميساط بالمال ، ويوفِّر على نفسه القتال والحرب ، وطلب الأمير التركي مبلغ عشرة آلاف دينار ذهب مقابل تسليم المدينة بشعبها ، ووافق بلدوين على الفور ، فقد كانت خزينة الزعيم الراحل ثوروس مليئة بالأموال ، ودفع المبلغ المطلوب ، وتسلَّم المدينة المسلمة دون قتال !! ولا شك أن وجود مثل هؤلاء القادة المفرطين ، والبائعين لكل شيء في مقابل المال كتفسيرٍ واضح لهذا الإجتياح الصليبي للبلاد المسلمة !! ولم يكتف بلدوين بضم سميساط ولكن أتبعها بعد ذلك بضم سروج ثم البيرة لتتسع رقعة إمارة الرها ، وتصبح مُرضيَّة لغرور الأمير الفرنسي بلدوين . ومن خطوات بلدوين أيضًا لتثبيت أقدامه في إمارة الرها أنه كان حريصًا عند ضم المدن الإسلامية أن يحرِّر الأسرى الأرمن من السجون التركية ، وخاصة في سميساط ، وإرجاع هؤلاء الأسرى إلى عائلتهم الأرمينية دون مقابل ؛ مما أكسبه مودة الشعب الأرمني وتعاطفه . وكان من الخطوات الرئيسية التي إتخذها بلدوين أنه أنكر تبعيته للإمبراطور البيزنطي، وتحلَّل صراحةً من اتفاقية القسطنطينية ، وضرب بهذا عصفورين بحجر واحد ؛ فهو حقق أحلامه بتكوين إمارة يصبح هو القائد الوحيد لها دون تبعيته لأحد ، ثم إنه أرضى الشعب الأرمني جدًّا حيث إن الأرمن المتعصبين لمذهبهم كان يحنقون بشدة على المذهب الأرثوذكسي .. والجدير بالذكر أن المذهب الأرمني أقرب إلى الكنيسة الغربية منه إلى الأرثوذكس ، ولكنه ليس متطابقًا معها ، ومع ذلك فقد سمح بلدوين بالحرية العقائدية في إمارة الرها ، ولم يضغط مطلقًا على الأرمن لتقليد المذهب الكاثوليكي الغربي ، ولا شكَّ أن هذا وافق قبولاً عامًّا عند الشعب الأرمني .. أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي فإنه لم يستطع أن يفعل شيئًا ؛ لأن الرها كانت بعيدة عن مركز قوته ، وكان تركيزه الأساسي على غرب آسيا الصغرى ، ومدن منطقة قليقية ، وعلى رأسها طرسوس وأذنة والمصيصة ، كما كان مشغولاً جدًّا بأمر مدينة أنطاكية المهمة ، التي يتجه إليها الجيش الصليبي الآن .. أما بالنسبة لبلدوين فإنه لم يكتف بقبول الشعب الأرمني له ، فإنه يدرك كقائد محنك أن هؤلاء ما إستقبلوه بالترحاب إلا هربًا من التبعية البيزنطية من ناحية ، وهربًا من السيطرة التركية من ناحية أخرى ، وأنهم متى توفرت لهم القوة فسوف يستقلون بحكمهم ، ويطردون بلدوين وجيشه ؛ لذلك بدأ بلدوين يسعى في تغيير التركيبة السكانية في إمارة الرها لصالح الصليبيين ، ففعل مثلما يفعل اليهود الآن في فلسطين ، حيث بدأ يرسل إلى أوربا يستقدم الصليبيين الغربيين ، وخاصة من فرنسا للقدوم والاستيطان الكامل في إمارة الرها ، فهو لم يكن يستقدم الجنود المرتزقة ، ولكن كان يستقدم العائلات الأوربية برجالها ونسائها وأطفالها ، وكان يستقدم أيضًا أصحاب الوجاهة والأمراء في مقابل مبالغ مالية كبيرة من المال ، وإغراءات كثيرة تشمل إعطاء إقطاعيات خارج أسوار مدينة الرها تبلغ مساحات كبيرة . وهكذا حوَّل بلدوين إمارة الرها إلى قطعة من الغرب الأوربي ، فيها النظام الإقطاعي المعروف هناك ، حيث صار الصليبيون على رءوس الإقطاعيات ، بينما الأرمن يعملون في الزراعة والتجارة تحت الهيمنة الصليبية . ولا شك أن هذه الأوضاع أثارت بعض الأرمن ، فقاموا ببعض الثورات على حكم بلدوين ، ولكن بلدوين قابلها بقسوة بالغة وبردعٍ صارم ؛ مما أدى إلى هدوء الأوضاع بعد ذلك في الإمارة بكاملها . وهكذا بالترغيب والترهيب ، والتواصل مع الشعب الأرمني ، والتعاون الوثيق مع نصارى غرب أوربا إستطاع بلدوين أن يتمكن من حكم هذه الإمارة في عمق العالم الإسلامي ، وكانت هذه الإمارة هي حاجز الصدِّ الأول ضد سلاجقة فارس وشرق العالم الإسلامي لوقوعها في الطريق بينهم وبين منطقة الشام وبيت المقدس ، حيث ستكون هناك بقية الإمارات والممالك الصليبية ، وهي لكونها قريبة جدًّا من إمارة الموصل وديار بكر والجزيرة - وهي مناطق إسلامية صرفة من ناحية التركيبة السكانية ، فإنها كانت أشد الإمارات الصليبية إيذاءً للمسلمين ، غير أنها من الناحية الأخرى كانت أضعف الإمارات الصليبية لبُعدها عن بقيَّة الإمارات الصليبية في الشام ، ولعدم قدرتها على الإفادة من الأساطيل الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط ولكونها تحكم شعبًا من الأرمن له أطماعه الخاصة ، ثم لقربها من الموصل التي ستشهد - مستقبلاً - نهضةً إسلامية جهادية سيكون لها أثرٌ في حياة إمارة الرها . ولنعُدْ بعد هذه الرحلة في مدينة الرها وما حولها إلى الجيوش الصليبية ، وهي تقطع الطرق الوعرة في آسيا الصغرى من خلال طبيعة الجبال القاسية ، وندرة الماء في بعض الأماكن ، وحدوث ما يمكن أن نسمِّيه بحرب العصابات من الأتراك المتفرقين هنا وهناك ، إلا أنهم في النهاية وصلوا إلى المدينة المهمة جدًّا : مدينة أنطاكية ، وكان وصولهم هذا في - 490هـ , 21 من أكتوبر 1097 . | |||
09-19-11, 10:41 AM | رقم المشاركة : 8 |
رد: قصة الحروب الصليبية
- حصار أنطاكية تُعَدُّ مدينة أنطاكية من أهم المدن في منطقة الشام وآسيا الصغرى ، بل لا نبالغ إن قلنا أنها كانت من أهم مدن العالم القديم بأسره ، وذلك لمميزات خاصَّة تفوقت بها هذه المدينة على غيرها . فهي أولاً : مدينة رئيسية منذ قديم الزمان ، كانت تتخذها الدولة البيزنطية قديمًا عاصمة لمنطقة الشام بكاملها ولعدة قرون . وثانيًا : هي مدينة دينية من الطراز الأول، حيث يعظِّم النصارى شأنها جدًّا ، فهي أول مدينة أطلق فيها على أتباع المسيح إسم المسيحيين ، وذلك كما جاء في سِفْر أعمال الرسل : ودُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً , وفي هذه المدينة أسَّس القديس بطرس أول أسقفية له . وثالثًا : وصل الفتح الإسلامي إلى هذه المدينة مبكرًا جدًّا ، ففتحت بالإسلام في سنة (15هـ) 636م على يد المجاهد الجليل أبي عبيدة بن الجراح ، فهي إسلامية منذ أكثر من 460 سنة . ويرجع الفضل في تحويلها إلى منطقة إسلامية واضحة المعالم إلى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ، الذي لاحظ تكرار الهجمات البيزنطية على هذه المدينة بالذات ، فقرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين ؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان ، بل ومن العراق ، ليستوطنوا في هذه المنطقة ، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين ، وصارت المدينة إسلامية آمنة ، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش وطرسوس وملطية وغيرها . ورابعًا : فهذه المدينة صاحبة تاريخٍ تجاريٍّ عظيم ، فهي من أهم المراكز الاقتصادية في المنطقة ، بل إنها كانت من مراكز التبادل التجاري المشهورة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية في الفترات التي كان السِّلم يغلب فيها على العَلاقة بين الدولتين . وخامسًا : تُعَدُّ هذه المدينة من أحصن مدن الشام ، بل من أحصن مدن العالم آنذاك ، وكانوا يقارنون حصانتها بحصانة القسطنطينية أحصن مدن العالم القديم .. ولعلنا إذا نظرنا نظرة سريعة إلى جغرافيتها ندرك مدى الحصانة الطبيعية التي وهبها الله عزوجل لهذه المدينة ، فضلاً عن القلاع والحصون ؛ فالمدينة محاطة بالجبال العالية من جهتي الجنوب والشرق ، ويحدها من الغرب نهر العاصي ، وهي محاطة أيضًا من الشمال بمستنقعات وأحراش .. وفوق هذه الحماية الطبيعية فهي محاطة بأسوارٍ عالية من كل جانب ، وعلى هذه الأسوار ثلاثمائة وستون برجًا للمراقبة وإطلاق السهام والرماح والقذائف المشتعلة ، فضلاً عن قلعة حصينة جدًّا من الصعب أن تُقتحم ! سادسًا : تقع هذه المدينة على أول طريق الشام للقادمين من آسيا الصغرى ، وعلى ذلك فسقوطها يعني فتح الطريق للشام ، كما أن بقاءها بما فيها من جنود و حامية يجعل تجاوزها دون إسقاط أمرًا في غاية الخطورة ؛ لذلك لم يكن هناك بُدٌّ للصليبيين من التوقف أمامها . سابعًا : هذه المدينة وإن كانت مدينة داخلية غير ساحلية إلا أنها على مقربة جدًّا من البحر الأبيض المتوسط وموانئ السويدية واللاذقية ، مما يجعل وصول المؤن إليها عن طريق البحر أمرًا ممكنًا بل ميسورًا . ثامنًا : التركيبة السكانية في داخل أنطاكية كان لها طابع خاص جدًّا ، فعلى الرغم من قدم توطُّن المسلمين فيها إلا أنه كان بها أعدادٌ كبيرة من النصارى الأرثوذكس ، وأيضًا من النصارى الأرمن ؛ وذلك للأهمية الدينية لهذه المدينة عندهم ، وقد عاشوا قرونًا طويلة مع المسلمين في هذه المدينة في تعايش جميل ، لم يعكر صفوه على مدار السنين فتنة طائفية ولا إضطهاد عنصري . تاسعًا : التاريخ القريب لهذه المدينة شهد بعض التغيرات التي أضافت بعض التعقيدات إلى القصة، فهذه المدينة سقطت في أيدي الدولة البيزنطية في (358هـ) أول نوفمبر سنة 969م ، في عهد الإمبراطور نقفور فوقاس ، وأحدث سقوطها دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي، فهي وقت سقوطها كان قد مرَّ عليها أكثر من ثلاثة قرون بأيدي المسلمين ، وهي في نفس الوقت المدينة الدينية المعظَّمة عند عموم العالم المسيحي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي ، كما أن الدولة البيزنطية بعد سقوطها قتلت الكثير من أهلها ، وأخرجت الباقي ، وهجَّرتهم خارجها ، وإستقدمت جموعًا هائلة من المسيحيين ليعيشوا فيها ، وظل الوضع على هذه الصورة إلى العقد الثامن من القرن الحادي عشر ، أي بعد موقعة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ) 1071م ؛ حيث شهدت منطقة أنطاكية هجرة مزدوجة من السلاجقة والأرمن ، مما أدى إلى تغيُّر الخريطة السكانية من جديد ، بل إن العنصر الأرمني غلب على التوزيعة الجديدة .. وقد أدى الانهيار البيزنطي أمام السلاجقة إلى سعي الدولة البيزنطية إلى التعاون مع الأرمن - على كراهيتها لهم - لمقاومة السلاجقة ؛ وهذا أدى إلى رسوخ قدم أكبر في المنطقة ، بل تطاول الأرمن أكثر وأكثر ، وخرجوا عن تبعية الدولة البيزنطية ، وحاصر أحد أكبر قادتهم وهو فيلاريتوس مدينة الرها ، وإستولى عليها من البيزنطيين، وذلك في سنة (469هـ) 1077م ، ثم في السنة التالية مباشرة (470هـ) 1078م إستطاع فيلاريتوس أن يستولي على أنطاكية ذاتها بعد قتل آخر حاكم بيزنطي لها .. غير أن الأرمن لم يحكموا أنطاكية إلا سبع سنوات فقط ، حيث سقطت في يد سليمان بن قُتلمش مؤسِّس دولة سلاجقة الروم ، وذلك في سنة (477هـ) 1085م ، ليبدأ فيها حكمًا إسلاميًّا من جديد بعد غياب 119 سنة متصلة , ومن جديد بدأ السلاجقة وعموم المسلمين يتزايدون في المدينة ، وذلك جنبًا إلى جنب مع النصارى الأرثوذكس على أَتْباع المذهب البيزنطي ، والأرمن الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة ؛ وهذا التاريخ القريب - كما نرى - أعطى تعقيدًا واضحًا للموقف ، فأنطاكية متنازعٌ عليها بوضوح من الطوائف الثلاثة : المسلمين بقيادة السلاجقة ، والدولة البيزنطية والأرمن ، إضافةً إلى القوة الجديدة القادمة من أوربا الغربية ! عاشرًا وأخيرًا : أنطاكية بالذات حلم كبير في ذهن بوهيموند ، الزعيم النورماندي الشرس , فهو لا ينسى أنها كانت أُمْنيَّة أبيه روبرت جويسكارد زعيم النورمان الإيطاليين الشهير، وأن أباه أرسل جيشًا قبل ذلك بسبعة عشر عامًا ، وبالتحديد في سنة (473هـ) 1081م لإسقاط أنطاكية ، وكان على رأس هذا الجيش بوهيموند نفسه ، ولكن هذا الجيش فشل في إسقاط المدينة الحصينة ، والفشل في عُرْف هؤلاء القراصنة عار كبير، فهم لا يعيشون إلا على السلب والنهب والسرقة والقنص ؛ ولذلك فإن بوهيموند لم ينس أنطاكية أبدًا ، ويأخذ القضية كثأر قديم ، ويضحِّي بكل شيء من أجل إستحواذها ، وليس في ذهنه دين ولا صليب ، ولا يتحرك قلبه لقدس أو حجيج ، ولا يخشى في ذلك إمبراطور الدولة البيزنطية الذي تظاهر بالصداقة له ، ولا زعماء الحملة الصليبية الذين يصاحبونه في هذه العمليات الإجرامية , إن المسألة عنده مسألة شخصيَّة تمامًا ، وسيبيع كل شيء ويشتري أنطاكية ! هذه أمور عشرة جعلت قضية أنطاكية قضية معقدة جدًّا ، وهي محطُّ أنظار الجميع ، وعليها سيكون التنافس بين كل القوى الموجودة في المنطقة . - مَن الذي يحكم أنطاكية في ذلك الوقت؟ كان يحكمها أحد العسكريين التركمان الأشداء ، وهو ياغي سيان ومن خلال إستعراض قصته سنجد أنه كان من الزعماء السياسيين والعسكريين المتميزين ، وكانت له حكمة بالغة في التراتيب الإدارية ، والمواقف السياسية ، والقتال الحربي ، وإن لم يكن متحليًا بالأخلاق الإسلامية الرفيعة ، فليس عنده مبدأ معين فقد يصادق إنسانًا ويعاديه في يوم آخر لتعارض المصالح ، وهو في قتاله لا يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ولكن يقاتل من أجل حب البقاء ، وحب التملك والسيطرة ، وحب الكرسيِّ ، وما إلى ذلك من أمور الدنيا . وهذه النوعية من الحكام - مع كفاءَتها السياسيَّة والعسكريَّة - لا تصلح للحفاظ على هيبة المسلمين طويلاً ، فهم - لا شكَّ - يسقطون وتسقط معهم الشعوب التي قبلت بهم، وتسقط كذلك المدن والدول التي يحكمونها , إن النصر في المفهوم الإسلامي لا يكون إلا من عند الله ، والله لا ينصر إلا من نصره، يقول تعالى : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ .. ويقول أيضًا : وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . وهذا الذي لم يضع نصر الله في حساباته لا ينصره الله أبدًا، وإن قعد في كرسيِّه عشرات السنين ، وإن تعلَّم علوم الحرب والسياسة، وفَقِه في أمور القيادة والإدارة . ولعلنا إذا راجعنا قصة ياغي سيان نفهم طبيعته ، ومن ثَمَّ نفهم قصة حصار أنطاكية , لقد كان ياغي سيان قائدًا من القوَّاد المهرة للسلطان السلجوقي الشهير ملكشاه بن ألب أرسلان الذي قاد دولة السلاجقة العظام ، وهي التي كانت تسيطر على فارس والعراق وأجزاء من الشام من سنة 464هـ إلى سنة 485هـ (من 1072 إلى 1092م) ، وكان أخو ملكشاه وهو تتش بن ألب أرسلان يحكم الشام ، وحدث قتال بين تتش وسليمان بن قتلمش زعيم سلاجقة الروم الذي حرَّر أنطاكية بعد إحتلال دام 119 سنة من الدولة البيزنطية ، وذلك في سنة (477هـ) 1085م، وكانت نتيجة قتال تتش وسليمان أن قُتل سليمان ، وذلك في سنة (478هـ) 1086م، وهكذا صارت أنطاكية من أملاك تتش ، غير أن ملكشاه نزع أنطاكية من ملك أخيه وأعطاها إلى ياغي سيان ، وذلك في سنة (479هـ) 1087م وهذا - لا شك - أوغر صدر تتش تجاه ياغي سيان ، ولكن قوَّة ملكشاه منعت تتش من إتخاذ أي موقف تجاه ياغي سيان ، ومرت السنوات ومات ملكشاه في سنة (484هـ) 1092م ، أي بعد خمس سنوات من ولاية ياغي سيان على أنطاكية ، ومع أننا توقعنا صدامًا قويًّا بين تتش وياغي سيان على أنطاكية ، إلا أن ياغي سيان إستطاع بحكمته وسياسته أن يتقرب إلى تتش مما جعله يُقِرُّه على أنطاكية ، بل وبدأ ياغي سيان يخطب لتتش في أنطاكية , ثم إشترك ياغي سيان مع تتش في حرب بركياروق بن ملكشاه إبن أخي تتش ! وإنخذل ياغي سيان أثناء القتال ؛ مما أدى إلى هزيمة تتش وقتله في سنة (488هـ) 1095م ، ليعود ياغي سيان إلى حكم أنطاكية منفردًا ، ويتولى أولاد تتش حكم الشام بالتقاسم ، فيأخذ رضوان بن تتش حلب ، ويأخذ دقاق بن تتش دمشق .. وكعادة هذا الزمان دار الصراع بين الإخوة بغية التوسع والتملك ، وأسرع كل زعيم يضم إليه ما حوله من مدن، وطمع رضوان زعيم حلب في أنطاكية القريبة ، فحدث بينه وبين ياغي سيان شقاق وصراع ، إنتصر فيه ياغي سيان وبقي محتفظًا بأنطاكية ، ثم دارت حرب مباشرة بين رضوان زعيم حلب ودقاق أخيه زعيم دمشق وذلك في سنة (489هـ) 1096م ، وللعجب الشديد فإن ياغي سيان إنضم إلى رضوان ! وحاول رضوان احتلال دمشق ولكنه فشل في ذلك , ثم مرت الأيام وأراد دقاق أن يغزو حلب ، فإنضم ياغي سيان في هذه المرة إلى دقاق في الحرب ضد رضوان ، غير أنهم لم يتمكنوا من غزو حلب ! إنه كان يعيش حياة الجنود المرتزقة الذين يقاتلون في جيشٍ بغية درهم أو دينار ، فإذا دفع الطرف الآخر أكثر إنضم إليه ونسي ولاءَه الأول . إنَّ هذه القصة لا تعطينا فقط انطباعًا عن طبيعة حاكم أنطاكية ياغي سيان ، بل تعطينا إنطباعًا أوسع وأشمل عن طبيعة ذلك الزمن بأسره ، فهؤلاء هم الحكام في منطقة الشام يوم غزو الجيوش الصليبية . وليست المشكلة في الحكام فقط، فهؤلاء الزعماء لا يقاتلون بمفردهم في الحروب ، إنما يقاتلون بجيوش ، ومن وراء الجيوش شعوب ، ولا شك أن هذه الجيوش التي لا تعرف لها قضية، وهذه الشعوب التافهة المغيَّبة تستحق ما يحدث لها من نكبات وأزمات . وهكذا عندما جاءت الجيوش الصليبية حول أنطاكية في أكتوبر سنة (460هـ) 1097م ، كان ياغي سيان حاكمًا للمدينة منذ عشر سنوات كاملة ، وعلى خلاف وشقاق كبير مع أقرب المدن إليه وهي حلب ، والعلاقة بينه وبين المدن الأخرى عَلاقات فاترة لا تقوم إلا على المصالح والمنافع الدنيوية ,, وجاء الصليبيون بحدِّهم وحديدهم ! وأحكموا قبضتهم حول المدينة ! وقف الجيش النورماني الإيطالي بقيادة بوهيموند أمام الجهة الشمالية للمدينة عند باب بولس، ووقف جيش جودفري بوايون في الجهة الشمالية الغربية في مواجهة باب الجنينة ، ووقفت بقية الجيوش وعلى رأسها روبرت وستيفن وهيو والأمير ريمون الرابع كلهم من الناحية الغربية أمام باب الكلـــب , وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الناحية الشرقية والجنوبية كانت محاطة بالجبال العالية ؛ ولذلك لم يكن عندها جيوش .. وغني عن البيان أن الدولة البيزنطية كانت تشارك في هذا الحصار بسرية بيزنطية على رأسها قائد محترف هو تاتيكيوس Tatikios ؛ وذلك لكي يحفظ حق الدولة البيزنطية في المدينة بعد سقوطها . وكان بالمدينة - كما مرَّ بنا - عددٌ كبير من النصارى الأرثوذكس والأرمن ؛ تقول الرواية اللاتينية أنهم خرجوا من المدينة بمجرَّد قدوم الجيوش الصليبية ، وأمدوهم بأسرار كثيرة عن مداخل المدينة ومخارجها ووسائل الدفاع وكميات المؤن وأعداد المقاتلين ، وما إلى ذلك من معلومات تسهِّل فتح المدينة .. وكان ياغي سيان قد أعدَّ المؤن الكثيرة التي تكفي الحياة المدنية لمدة طويلة من الزمن وكذلك إستعد الصليبيون بكميات من المؤن جمعوها من القرى المجاورة عن طريق السلب والنهب ، كما وصل إلى ميناء السويدية عند مصب نهر العاصي - وهو ميناء قريب جدًّا من أنطاكية - أسطولٌ جنويٌّ يحمل إمدادات مهمة للصليبيين .. وفوق ذلك فميناء اللاذقية القريب أيضًا كان قد وقع تحت سيطرة القرصان البولوني ونمار ، وكان يمد الصليبيين بما يحتاجونه من مؤن , وهكذا أغلق الصليبيون الطرق المؤدية إلى أنطاكية وسيطروا على الموانئ الغربية ، ولم يعد أمام المسلمين المحاصَرين إلا ما هو داخل المدينة من مؤن وسلاح . ومن داخل المدينة المحاصَرة أرسل ياغي سيان رسائل تطلب النجدة من زعماء الإمارات الإسلامية المجاورة وما من شك أنه لم يستطع أن يرسل رسالة إلى رضوان أمير حلب نظرًا للخيانة القريبة التي فعلها ياغي سيان بإنضمامه إلى دقاق بعد أن كان محالفًا لرضوان ؛ لذلك أرسل ياغي سيان إلى دقاق ملك دمشق ، وجناح الدولة أمير حمص ، وهما يقعان على بُعد أكثر من مائة وأربعين كيلو مترًا من المدينة ، بل إنه أرسل إلى كربوغا أمير الموصل التي تقع على بُعد سبعمائة كيلو متر ، وكذلك إلى بركياروق سلطان سلاجقة فارس وهو أبعد وأبعد ، ولم يتمكَّن كما ذكرنا من طلب المساعدة من حلب التي تقع على مسافة أقل من ستين كيلو مترًا من أنطاكية !! ومرت الأيام ثقيلة على الطرفين ؛ فالمدينة المحاصَرة لا يصل إليها أي إمداد خارجي ، وكذلك الصليبيون يمرون بأزمة واضحة ؛ إذ إن الجيوش هائلة ، والمؤن ليست كافية في هذه المنطقة المحدودة ، وهم لا يستطيعون الابتعاد كثيرًا عن أنطاكية؛ لكي لا يعطوا فرصة للمحاصَرين أن يخرجوا , وقد حدث ذات مرة أن إبتعدت بعض الجيوش الصليبية للإغارة على بعض القرى ، فخرج ياغي سيان لقتال الجيوش المتبقية ، وكاد ينتصر عليهم لولا مهارة بوهيموند وسيطرته على الموقف حتى عودة بقية الجيوش .. وهكذا صار الحصار صعبًا على الصليبيين كما كان صعبًا على المسلمين ، غير أنه كان على الصليبيين أشق وأصعب ، وخاصةً أن الحصار بدأ في (490هـ) 21 من أكتوبر 1097م ، وقد دخلت الأشهر الباردة ، وهم في العراء يعانون الجوع والبرد . وبعد مرور أكثر من شهرين على الحصار جاءت نجدة إسلامية من دمشق على رأسها دقاق السلجوقي ، ومن حمص وعلى رأسها جناح الدولة حسين بن ملاعب ، وإلتقوا مع الجيش الصليبي في منطقة جنوب أنطاكية عند البارة في آخر ديسمبر (490هـ) 1097م ، وكان الجيش الصليبي يبحث في هذا المكان عن إمدادات غذائية ، ودارت معركة ظهر فيها تفوق المسلمين وإن لم يحقِّقوا نصرًا حاسمًا ، ومع ذلك فقد قرر دقاق الانسحاب والعودة إلى دمشق ليؤمِّن مدينته ، ويدرس الموقف من جديد! وفي هذه الأثناء أرسل له الصليبيون رسالة يسكِّنونه فيها ويخدِّرونه ، إذ قالوا له أنهم ما جاءوا إلى هذه المناطق إلا لتحرير المدن الشمالية التي كانت ملكًا للدولة البيزنطية مثل الرها وأنطاكية ، وأنهم ليس لهم حاجة في دمشق ما دامت لا تقاتلهم وقد أقنعت هذه الكلمات دقاق فترك أنطاكية تواجه مصيرها ، وسكن في مدينته .. وهكذا عاد الموقف صعبًا من جديد ، ولكن مع بدايات السنة الميلادية الجديدة ودخول شهر يناير (491هـ) 1098م ، وإشتداد البرد وقلة الزاد بدأت الأزمة تتفاقم جدًّا في المعسكر الصليبي ، بل نشأت الفوضى بين الجند ، وظهرت الاعتراضات هنا وهناك , بل ظهرت دعوات بفك الحصار ، بل وأشد من ذلك بدأت تظهر حالات هروب من المنطقة بكاملها ، وكانت المفاجأة أنه كان على رأس الهاربين بطرس الناسك الذي كان يُجمِّع الجيوش في فرنسا قبل ذلك ، مما يؤكِّد عدم وجود البُعد الديني تمامًا في رؤيته ، ولقد جدَّ تانكرد في إثره حتى عثر عليه وهو في طريقه للقسطنطينية ، وأجبره على العودة للبقاء مع الجيش الصليبي ، وكانت عودته عودة مخزية مشينة ، وضَّحت أهداف الحملة الصليبية تمامًا . كان بوهيموند النورماني يرقب كل هذه الأوضاع ، ويحاول أن يوظِّف الظروف لخدمة مآربه الخاصة، ومطامعه الكبيرة في الحصول على أنطاكية لصالحه هو ، وكان يعلم أن الأمراء الصليبيين سينافسونه فيها ، كما أن صديقه الإمبراطور البيزنطي لن يسمح له بأخذ أنطاكية ، التي تعتبر من أهم المطامع البيزنطية في المنطقة , فماذا يفعل بوهيموند إزاء هذا الوضع ؟! لقد كان داهيةً على أعلى مستوى ، وكان ماكرًا إلى أبعد حدود المكر ! لقد أعلن بوهيموند - وهم في هذه المرحلة الحرجة من الحصار - أنه ما عاد يطيق البقاء في هذه الظروف، وأن عنده ارتباطات كبيرة خاصَّة بمملكته في إيطاليا ، ومن ثَمَّ فهو سيسحب جيشه من الحصار ، ويقفل راجعًا إلى إيطاليا .. لقد كانت هذه كارثة بالنسبة للجيوش الصليبية ! فالجميع يعلم أن أقوى الفرق مطلقًا هي فرقة بوهيموند ، ولعله هو أمهر القادة وأقدرهم على وضع الخطط الحربية وأصبرهم على القتال، وعودة بوهيموند إلى إيطاليا كانت تعني بالنسبة لهم فشل الحملة الصليبية ، وضياع كل المكاسب المتحققة والمرجوة ، وضياع كل ما جرى إنفاقه حتى هذه اللحظة من أموال وأرواح وأوقات . لقد كان تهديدًا يحمل كارثة للصليبيين ، وكان بوهيموند القائد الماكر يعلم قيمته في الجيش ، ولم يكن في قرارة نفسه يفكر في العودة ، فإنه ما جاء إلى هذه البلاد نصرة للرب ، ولا حماية للحجيج ، ولا صداقة للإمبراطور البيزنطي ، إنما جاء من أجل أنطاكية وأنطاكية فقط فموقفه هذا لم يكن إلا لعبة سياسية خطيرة ، ولكنه لعبها بدرجة عالية من الاحتراف ! دبَّ اللهع في قلوب زعماء الجيوش الصليبية ، وإلتفوا حول بوهيموند يتوسلون إليه ألا يتركهم ، ثم اجتمعوا على منحه أنطاكية له خالصة دون مشاركة في حال سقوطها ، فتحقق له ما يريد ؛ ومن هنا قرر البقاء والعمل معهم بكل طاقته !! وهكذا سيطر بوهيموند على الموقف مع زعماء الحملة الصليبية . لكن بقيت له مشكلة ، وهي وجود السرية البيزنطية بزعامة تاتيكيوس ، وإتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم أنطاكية إلى الدولة البيزنطية ، ويمين الولاء والتبعية الذي أقسمه لهذا الإمبراطور قبل ذلك ..ماذا يفعل في هذه الالتزامات ؟! لقد بدأ بوهيموند في إستفزاز القائد البيزنطي تاتيكيوس ، وبدأ ينكر أي جهود بيزنطية في المساعدة ، بل بدأ يفعل ما هو أخطر إذ أشاع أن هناك تنسيقًا سريًّا بين تاتيكيوس والأتراك المسلمين ، وأن هناك خيانة للقضية الصليبية ، وهذا قد حدث قبل ذلك عند إسقاط نيقية ، فلماذا لا يحدث الآن ؟ أثارت هذه الإشاعات غضب تاتيكيوس ، فأسرع إلى الزعماء الصليبيين يشكو لهم ، غير أنهم وجدوها فرصة للتخلص من الالتزامات تجاه الدولة البيزنطية ، وقالوا أن الدولة لم تساعدهم في أزمتهم بشيء يُذكر ، ومن ثَمَّ فهي البادئة بنقض الاتفاقية ، وفي هذا مبرر للصليبيين ألا يلتزموا باتفاقيتهم , وهنا شعر تاتيكيوس بالخطر على نفسه ، فإنتهز الفرصة وهرب ليلاً إلى قبرص عن طريق ميناء السويدية وهكذا تحقق هدف بوهيموند في إبعاد الدولة البيزنطية عن الساحة على الأقل عند لحظات سقوط أنطاكية ، وبذلك يضمن أن تكون له لا لغيره ! وبدأ بوهيموند من جديد ينسق الجيوش ، ويرسل الفرق هنا وهناك للإتيان بالمؤن والغذاء ، وأخذ يبثُّ الحماسة في قلوب الجنود الصليبيين وزعمائهم .. في هذه الأثناء وفي (491هـ) يناير سنة 1098م حدث أمر غيَّر كثيرًا في سير الأحداث ، وأضاف قوة ملموسة إلى المعسكر الصليبي ؛ لقد جاءت سفارة من دولة مصر تعرض التفاهم والتفاوض مع الجيش الصليبي لتحقيق مصالح مشتركة !! لقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم العبيديين المعروفين بالفاطميين ، وهم كما ذكرنا من الشيعة الإسماعيلية ، وكانوا على خلاف كبير مع السلاجقة السُّنَّة ، وكذلك مع الخلافة العباسية السُّنِّيَّة ؛ ففكر هؤلاء العبيديون في التعاون مع الصليبيين لحرب السلاجقة السنة!! وكان الخليفة العبيديّ في ذلك الوقت هو المستعلي بالله ، وإن كانت الأمور كلها في يد الوزير الأفضل بن بدر الجماليِّ .. وكان عرض الدولة العبيدية يشمل الاتفاق مع الصليبيين على تقسيم الشام بينهما ، فيأخذ الصليبيون أنطاكية ومدن الشمال ، بينما يأخذ العبيديون بيت المقدس وكان العبيديون بالفعل يسيطرون على بيت المقدس حيث قاموا بإحتلاله سنة (491هـ) 1097م ، حينما كان السلاجقة مشغولين بحرب الصليبيين في آسيا الصغرى .. لقد كانت هذه السفارة تحمل البشريات للجيش الصليبي ، بينما كانت طعنة نافذة في صدر - بل في ظهر - الأمة الإسلامية !! لقد كان لها من الآثار السلبية ما يخرج عن حدِّ التخيل : فأولاً : رفعت هذه السفارة جدًّا من معنويات الجيش الصليبي ؛ إذ علموا أنهم يتعاملون مع أمَّة ضائعة ، ليس لها من همٍّ إلا التملك والثروة ، وأنهم على استعداد لبيع بعضهم البعض ، ولو كان المشتري هم الصليبيون .. وثانيًا : سيؤدِّي هذا الجهد العبيديّ إلى تشتيت السلاجقة السُّنَّة ، وإحداث الإضطراب بين صفوفهم ؛ فالصليبيون سيهاجمون من الشمال، والعبيديون من الجنوب . ثالثًا : سيأمن الصليبيون من هجوم الدولة المصرية التي كانت تملك جيشًا كبيرًا ، إضافةً إلى أسطول بحري قوي ، كان من الممكن أن يغيِّر الموقف في أنطاكية وغيرها لو كان يملكه مخلصون للمسلمين . رابعًا : وهو أمر مهم جدًّا أن هذه السفارة تعني الاعتراف من الدولة المصرية لهذا الكيان الجديد القادم على أرض المسلمين ، وأن له الأحقية الشرعية في أرض أنطاكية وعندها لا يجوز للمسلمين أن يطالبوا بهذه الأرض ، فقد أعطوها في مقابل أرض بيت المقدس ، وسينسى الناس بعد ذلك أن كلتا الأرضين مسلم !! لقد كانت خيانة بكل المقاييس ! ولقد أظهر الصليبيون الترحاب بالسفارة مع أنهم يعزمون تمامًا على أخذ بيت المقدس، بل ويعلنون ذلك جهرةً في كل محافلهم، ولكنهم قبلوا بهذا الطرح مؤقتًا , وسوف يتجاهلونه مستقبلاً كما تجاهلوا وعودهم للدولة البيزنطية ، وهو ما يسمى في أعرافهم سياسة ، ولكنها - للأسف - سياسة لا تنجح إلا مع الأغبياء أو العملاء ! ولقد كان كثير من زعماء المسلمين في ذلك الوقت من أحد هذين الصنفين أو منهما معًا ! كان هذا هو موقف الدولة العبيدية الشيعية . وماذا كان موقف رضوان بن تُتش حاكم حلب ؟! إن موقفه خطير جدًّا ؛ فهو وإن كان على خلاف مع ياغي سيان إلا أنه يعتبر أنطاكية من ممتلكاته الشخصية وأن ياغي سيان إستولى عليها ، ومن ثَمَّ فالصليبيون الآن يأخذون جزءًا من ميراثه ، فوق أنهم قريبون جدًّا منه ، وقد يتوجَّهون إلى حلب بعد سقوط أنطاكية ؛ لذلك إنتهز رضوان فرصة قدوم طلب نجدة من ياغي سيان بعد أن يَئِس ياغي سيان من دقاق وغيره ، فأسرع بتجهيز جيش لملاقاة الصليبيين ، وصاحبه في حملته أمير حماة وبعض القوات من ديار بكر ، واجتمعت كل القوات في حارم على بُعد ثلاثين كيلو مترًا شرق أنطاكية . إنهم لم يخرجوا ليحفظوا دين الإسلام وأرضه وأعراض المسلمين !! بل خرجوا حفظًا لأملاكهم، أو ذرًّا للرماد في العيون وهذه النوعية من الجيوش لا تُنصر عادةً ! تم الاتفاق بين رضوان من ناحية وياغي سيان من ناحية أخرى على الخروج في وقت متزامن من حارم وأنطاكية لحرب الصليبيين من الشرق والغرب ، فيقع بذلك الصليبيون في كمين بين الفريقين .. الخطة محكمة ، لكن القلوب مريضة والأجساد عليلة ! تسربت أنباء الخطة عن طريق نصارى حلب إلى الجيش الصليبي ، فخرج بوهيموند بنفسه على رأس فرقة صغيرة من الفرسان تبلغ سبعمائة فارس فقط ، وترك جيشه محاصِرًا لأنطاكية ، وإلتقى بوهيموند بهذه الفرقة الصغيرة مع جيوش حلب وحماة وديار بكر عند بحيرة العمق في شرق أنطاكية , وللأسف الشديد فإن كثرة الجيوش الإسلامية لم تغنِ عنها شيئًا ، وإذا بالقلة الصليبية تسيطر على الموقف بسرعة ، وأسرعت الجيوش الإسلامية بالفرار ، وقُتل منهم عدد كبير ، وقطَّع بوهيموند رءوسهم ، وحملها على أسِنَّة الرماح ، وعاد مسرعًا إلى أنطاكية في هذه الأثناء كان ياغي سيان قد خرج لحرب الجيوش الصليبية بعد إبتعاد بوهيموند ، إلا أنه - للأسف - هُزم هو الآخر فدخل مسرعًا إلى حصونه ، ثم جاء بوهيموند وألقى بالرءوس المقطَّعة داخل أسوار أنطاكية ؛ ليرسل رسالة رعب إلى ياغي سيان وشعبه .. إستمر حصار أنطاكية ، بل وبدأ الصليبيون في بناء قلعة مجاورة على تل قريب من أسوار أنطاكية لإستخدامها في قصف أسوار أنطاكية ، والتحصن بداخلها من السهام المسلمة , وأثناء بناء القلعة ، وفي (491هـ) 4 من مارس سنة 1098م وصل أسطول إنجليزي إلى ميناء السويدية يحمل كميات كبيرة من الزاد والسلاح وآلات الحصار ؛ مما رفع معنويات الجيش الصليبي جدًّا ، ثم تمَّ لهم بناء القلعة في (491هـ) 19 من مارس 1098م ، وبذلك صار الحصار مشددًا بشكل أكبر وأخطر .. جدد ياغي سيان استغاثته بسلطان سلاجقة فارس بركياروق، وكذلك بواليه على الموصل كربوغا ، وقد استجاب كربوغا لنداء ياغي سيان ، وجهَّز جيشًا كبيرًا ، ولكنه - للأسف - قرر أن يحاصر الرها ويحاول إسقاطها قبل أن يأتي إلى أنطاكية ، والذي دفعه إلى ذلك قرب إمارة الرها - وعلى رأسها الداهية بلدوين - من إمارة الموصل، فخَشِي كربوغا إن أخذ جيشه وذهب إلى أنطاكية وهي على بُعد أكثر من سبعمائة كيلو متر من الموصل , أن يهجم بلدوين على الموصل الخالية من الجيوش , وهكذا أضاع هذا الأمر عدة أسابيع من كربوغا ، وهو في محاولة فاشلة لإسقاط الرها ، ولم يتحرك في اتجاه أنطاكية إلا في (491هـ) أواخر شهر مايو 1098م . أثار قدوم كربوغا في الطريق إلى أنطاكية الفزع في الجيش الصليبي , فالأخبار تقول أن جيشه كبير ، والصليبيون قد تعبوا من طول الحصار ، فقد مرت عليهم حتى الآن أكثر من سبعة أشهر ، وهم مرابضون أمام أسوار أنطاكية ، وفي هذه الحالة السيئة وفي يوم 2 من يونيو 1098م قرر ستيفن دي بلوا الإنسحاب من المعركة ليأسه من فتح أنطاكية ، وأخذ معه عدد كبير من الفرنسيين ، وإتجه إلى ميناء الأسكندرونة ليقفل عائدًا إلى فرنسا .. لقد تأزم الموقف جدًّا على الفريقين ! لكن في هذه الأثناء لعبت الخيانة دورها ؛ لقد ظهر في أنطاكية رجل أرمني الأصل تظاهر بالإسلام إسمه نيروز أو فيروز ، وتبادل الرسائل السرية مع الأرمن الموجودين في الجيش الصليبي ، وكان كثير من الأرمن من أهل أنطاكية خرجوا من المدينة عند بدء الحصار وانضموا إلى الجيش الصليبي ، وقال هذا الرجل الأرمني : إنه يعلم أسرارًا قد تسهِّل فتح حصون أنطاكية , لقد كان هذا الرجل مقربًا من ياغي سيان ، وكان ياغي سيان يوليه حراسة عدد من أبراج أنطاكية المهمة وصلت هذه المعلومات إلى بوهيموند شخصيًّا ، فتكتمها عن بقية الزعماء الصليبيين ، وتراسل مع هذا الأرمني الذي طلب مالاً وإقطاعًا في البلد بعد سقوطها ، فأقره بوهيموند على ذلك ، جمع بوهيموند زعماء الحملة الصليبية وأعاد على أسماعهم خطورة الموقف ، وتيقن مرة ثانية من أنهم سيسلمونه أنطاكية إذا تم فتحها ، ثم بدأ يحدِّد لحظة الهجوم وساعة الصفر ، وكانت في (491هـ) صباح يوم 3 من يونيو 1098م أي بعد يوم واحد من رحيل ستيفن دي بلوا ومن معه من الفرنسيين ، فتح نيروز الأرمني الأبواب في برجه وفي بعض الأبراج المجاورة ، بل إن بعض الروايات تذكر أنه قتل أخًا له ؛ لكي لا يكشف قصة المؤامرة ، وهكذا إنسابت الجيوش الصليبية الهائلة داخل المدينة مع الساعات الأولى من الصباح , أسرعت الأرمن في داخل المدينة بالإنضمام إلى الصليبيين ، وأدرك ياغي سيان المؤامرة بعد فوات الأوان ، وقرر الهروب في مجموعة من الأتراك ، غير أن الأرمن من أهل أنطاكية أحاطوا به وقتلوه ، وحملوا رأسه إلى الصليبيين ؛ لتسقط بذلك كل عزيمة عند الشعب المسلم والجنود على حد سواء . [FONT=Arial Black][SIZE=4][B]وسادت موجة من الذعر هائلة في داخل أنطاكية ، وإنطلق الصليبيون يستبيحون المدينة بعد الحصار الطويل ، وقتل من الرجال والنساء والأطفال ما يخرج عن حد الإحصاء ، وسبيت أعداد هائلة من النساء والأطفال , وسرعان ما إرتفعت أعلام بوهيموند النورماني على أسوار أنطاكية وأبراجها . لقد كان سقوطًا مروعًا هزَّ العالم الإسلامي بأسره ، كما هزَّ العالم المسيحي ، إنها المدينة القديمة الجميلة الحصينة التي تحمل تاريخًا إسلاميًّا مسيحيًّا طويلاً ، ثم إنه السقوط المروع بعد حصار أكثر من سبعة أشهرٍ متصلة ، ثم إنها المذبحة الهائلة التي سقط فيها عشرات الآلاف من المسلمين ! وأسرع الصليبيون لدفن الجثث المتراكمة ؛ لئلا تنتشر الأوبئة في المدينة فتُهلِك الجيش بأكمله ، وبدءوا أيضًا في الانتشار في الحصون والأبراج ، وسيطروا سيطرة كاملة على مداخل المدينة ومخارجها .. وفي هذه الأثناء كان كربوغا يتحرك بجيشه من الرها بعد أن يَئِس من إسقاطها ، ثم توقف في مرج دابق على بُعد 650 كيلو مترًا تقريبًا من أنطاكية ، حيث عقد إجتماعًا مع بعض رءوس الإمارات من الأمراء والملوك ليكوِّن جيشًا كبيرًا لإنقاذ أنطاكية ، وكان جيش كربوغا هذا مرسَلاً من قِبل بركياروق سلطان السلاجقة وأقوى الشخصيات السلجوقية في ذلك الوقت ؛ لذلك أذعن لكربوغا عدد كبير من الأمراء منهم دقاق صاحب دمشق ، وأرسلان تتش صاحب سنجار ، وجناح الدولة أمير حمص وغيرهم ، غير أن رضوان صاحب حلب رفض الخروج في جيش فيه أخوه دقاق عدوه اللدود !! وهكذا خرج الجيش السلجوقي الكبير إلى أنطاكية ، ووصل إليها بعد حوالي ستة أيام من سقوطها ، وحاول كربوغا إقتحام المدينة ولكنه فشل لحصانتها ، فقام بضرب الحصار حولها ، لتنقلب الآية ؛ فالصليبيون داخل أنطاكية محصورون ، والمسلمون من خارجها مُحاصِرون لها ! وقد بدأ هذا الحصار في 8 من يونيو 1098م .. | |
09-19-11, 10:42 AM | رقم المشاركة : 9 |
رد: قصة الحروب الصليبية
وعاش الصليبيون معاناة حقيقية ، فالمدينة كانت قد خلت تقريبًا من الغذاء
بعد حصار المسلمين بها مدةَ سبعة أشهر متصلة ، وشعر الصليبيون بالندم
لقدومهم إلى الشرق ، وقد صاروا على أبواب مجاعة مهلكة ، وقد اضطروا إلى أكل
الميتة وورق الشجر !
ماذا يفعل الصليبيون في هذا الموقف العصيب ؟ [/B][/SIZE][/FONT] لقد فكَّر الصليبيون في الاستعانة بالإمبراطور البيزنطي ؛ إنها حياة المصالح . إنهم يحتاجون إليه الآن ، فلا مانع عندهم من التزلف مرة ثانية ، والتملق ، والنفاق! ووجدها الإمبراطور البيزنطي فرصة لإمتلاك أنطاكية المحبوبة ، فخرج بنفسه على رأس جيش كبير مخترقًا آسيا الصغرى صوب أنطاكية ، لكنه في الطريق وصلته أنباء بكبر حجم الجيش السلجوقي ، وبكونه مؤلَّفًا من أكثر من إمارة ، فخاف على نفسه وسلطانه ، وقال : إن حماية القسطنطينية والبيزنطيين أعظم عنده ألف مرة من حماية أنطاكية والصليبيين, فقرر الرجوع فجأة ، وعبثًا حاول رسل الصليبيين إثناءه عن رأيه ، ولكنهم فشلوا !! إن القضية ليست دينية أبدًا ! إن كل زعيم من هؤلاء لا يهتم إلا بملكه وعرشه ! وساء وضع الصليبيين أكثر؛ وبعد 4 أيام فقط من الحصار بدأ الصليبيون يتركون مواقعهم الأمامية في المقاومة من الإجهاد والتعب ، ويتجهون إلى البيوت في داخل المدينة وهذا يوضِّح روح اليأس والإحباط التي سيطرت على الصليبيين ، وواجه بوهيموند الموقف بصلابة نادرة , إنه يرى حُلمه ينهار ، ويرى أنطاكية الجميلة تضيع من يده بعد كل هذا الجهد ، بل يرى حياته وحياة جنده على مقربة من النهاية ، فماذا فعل بوهيموند ؟! لقد أحرق الدور والبيوت الداخلية ، وذلك في (491هـ) يوم 12 من يونيو 1098م ؛ ليجبر الجنود على تركها والعودة إلى مواقعهم الأمامية .. لقد كان قائدًا من طراز عجيب ! ومع ذلك فالقبضة الإسلامية محكمة حول أنطاكية ، وكان من الممكن أن تكون نهاية جيوش الصليبيين بكاملها ، لولا الأحداث المؤسفة التي حدثت في داخل الجيش الإسلامي !! ليتيقن المسلمون من الحقيقة القائلة : "إن أعداءنا لا يُنصرون علينا بقوتهم ، ولكن بضعفنا ! ". ماذا حدث في الجيش الإسلامي ؟! لقد شعر كربوغا أن جيشه وإن كان كبيرًا إلا أن جيوش الصليبيين أكبر، ولو حدث وخرج الصليبيون للقتال فقد تدور الدائرة على المسلمين إن طال الحصار ، ففكر كربوغا أن أفضل طريقة لتقوية الجيش الإسلامي هي إعادة فتح التفاوض مع رضوان بن تتش أمير حلب لينضم إليهم بجيشه ؛ فجيش حلب كبير ، ورضوان نفسه كفاءة عسكرية معروفة ، والأهم من ذلك أن حلب مدينة قريبة وغنية جدًّا ، وتستطيع إمداد الجيش الإسلامية بالمؤن اللازمة والسلاح وأدوات الحصار . كانت هذه فكرة كربوغا ، وهي فكرة صائبة لا شك ، لكنها لا تصلح مع هذه الزعامات الفارغة , إن الأمر وصل إلى إثارة قلق دقاق نفسه ، وغضب من كربوغا ، وحدث الشقاق والخلاف في الجيش المسلم ، وأعلن دقاق عن رغبته في العودة إلى دمشق ، وخاصةً أنه كان يخاف من توسع العبيديين في جنوب الشام ، وهذا - ولا شك - خلق جوًّا من التوتر في الجيش الإسلامي وأضاف إلى هذا التوتر خوف جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص من إنتقام يوسف بن أبق أمير الرَّحبة ومَنْبِج الذي كان مواليًا لرضوان ، فإعتبر جناح الدولة وجوده في الجيش الإسلامي عداءً لرضوان وحلفائه ، ومن ثَمَّ عاش في توتر كبير أثَّر في معنويات الجيش بكامله .. لقد ذاق المسلمون ثمرات الوَحْدة المؤقتة التي حدثت بينهم ، وإنكمش الصليبيون داخل أنطاكية ، وكانوا على أبواب اللهكة، والآن ها هم يتفرقون ليذوقوا ويلات التشتُّت والتشرذم ! يقول تعالى: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . ثم زاد الطينة بلة ، وعظمت الكارثة بظهور فتنة عنصرية في الجيش ، حيث نشأ خلاف بين العنصر التركي والعنصر العربي في الجيش ، وكان على رأس الأتراك كربوغا قائد الجيوش وأمير الموصل ، وكان على رأس العرب أمير إسمه وثاب بن محمود المرداسي، وثارت فتنة زكَّاها رضوان من بعيدٍ برسائله المحفزة للتركمان ضد العرب ! يقول رسول الله :"إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ ، مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِى تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ" . كان هذا هو الوضع في الجيش الإسلامي ! ونعود إلى داخل أسوار أنطاكية ؛ لقد شعر بوهيموند - رغم عناده وإصراره - بقرب النهاية , فأرسل في يوم 27 من يونيو 1098م - بعد تسعة عشر يومًا من الحصار - سفارة إلى كربوغا من رجلين أحدهما بطرس الناسك ، يعرض عليه فك الحصار وتأمين الجيوش في سبيل رحيلها , وعلى الرغم من التفكك الذي كان في جيش كربوغا إلا أنه خاف أولاً من خيانة بوهيموند وهي خيانة متوقعة ، ثم إنه شعر بضعف الصليبيين فطمع في القضاء عليهم تمامًا في معركة فاصلة . ويبدو أنه لم يقدر مدى الضعف الذي يسيطر على جنود الجيوش الإسلامية وقادتها وهكذا رفض كربوغا السفارة ، ومن ثَمَّ لم يعد أمام بوهيموند إلا قرار الحرب ، والحرب السريعة قبل أن يهلك الجيش الصليبي من الجوع . نظر بوهيموند في جيشه فوجد حالتهم النفسية في الحضيض ، فأراد أن يرفع من معنوياتهم ، ويرسخ عندهم مفهوم النصر الأكيد في المعركة القادمة، فماذا فعل ؟! لقد أشاع بواسطة كاهن من أهل مرسليا اسمه بطرس برتولوني أن القديس أندراوس الرسول ظهر لهذا الكاهن في الحلم ثلاث مرات ليدله على مكان في كنيسة القديس بطرس بأنطاكية ، دفنت فيه الحربة التي طعن بها المسيح عليه السلام ، وأنهم إذا حفروا ووجدوا الحربة فإنهم يحملونها أمام جيوشهم، وهذا الجيش يتحقق له النصر لا محال ! ثم كان من بوهيموند أن أمر الكاهن وبعض الرهبان بالحفر للبحث عن الحربة المزعومة، ثم أخرجوا حربة من الحَفْر، وقالوا: إن هذه معجزة، وإن هذا الجيش منصورٌ .. وبالطبع فإن هذه قصة لفَّقها بوهيموند وأتباعه لتحميس جيشه ، ولا يُقِرُّ عامة المؤرخين بصدق هذه الحادثة ، ولا غرابة فهؤلاء القساوسة الذين لفَّقوا الحكاية يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وعندنا في عقيدتنا يقينٌ أن المسيح عليه السلام لم يُقتل أصلاً ، يقول تعالى : وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ . فهذه الحربة - ولا شك - فِرْية أرادوا بها رفع معنويات المقاتلين الصليبيين ، وقد تحقق لهم مرادهم، وعادت لكثيرٍ من الجند الحماسة ، وقرروا الخروج من اليوم التالي مباشرة لحرب المسلمين . وفي صبيحة اليوم التالي 28 من يونيو 1098م بدأ الصليبيون في الخروج من المدينة للقتال ، وأشار المسلمون على كربوغا أن يبدأ في قتالهم قبل أن يكتمل خروجهم ، إذ كانوا يخرجون في جماعات صغيرة، غير أنه رفض وأصرَّ على اكتمال خروجهم ثم يبدأ بقتالهم ؛ يقول بعض المؤرخين : إن هذا ضيَّع عليه فرصة قتالهم منفردين , ولكن يبدو أنه كان يريد خروجهم بالكامل حتى لا يبقى أحد منهم بداخل المدينة متحصنًا، فخشي إن قاتل الجماعات الصغيرة التي تخرج أن يمتنع بقية الجيش من الخروج ، ومن الواضح أن كربوغا كانت تملؤُه الثقة بالنفس والاعتزاز بالأعداد التي معه ، وأغراه حالة البؤس التي كانت عليها الجيوش الصليبية بعد الحصار الطويل ، وأيضًا طلبهم منه أن يرفع الحصار كل ذلك أدى إلى تركه لهم حتى إكتمل عددهم ، ورتبوا صفوفهم تحت قيادة كل زعمائهم، وكان ريمون الرابع يتقدمهم وهو رافع للحربة المزعومة . ودارت معركة شرسة جدًّا أمام أسوار أنطاكية ، وكانت الغلبة في البداية للمسلمين ، لكنَّ الصليبيين كانوا يقاتلون قتال حياة أو موت ، وعلى العكس كان المسلمون يقاتلون للحفاظ على ملكهم وثرواتهم ، ومَن قاتل على هذه النوايا فهو لا يريد أن يموت ، وهي نوايا لا تصلح أبدًا لجيش مسلم يريد الانتصار , وما أعظم ما قاله رسول الله وهو يحفز جيشه ليلة بدر على القتال في صبيحة اليوم التالي ! فكان يقول لهم : "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ" إنه في هذا الموقف لا يشجعهم على الحفاظ على حياتهم ، لكن يشجعهم على بذلها في سبيل الله ، ولا يجعل همهم غنائم العدو أو بلاده، ولو كانت هذه البلد هي مكة المكرمة ، ولكن يجعل همهم دخول الجنة , وشتَّان بين كل ما رأيناه من رسول الله في ليلة بدر، وما حدث في يوم 28 من يونيو 1098م ؛ إذ ما لبث الزعماء المسلمون أن تزعزعوا ، وبدأ كل منهم يحاول النَّأْي بنفسه وجيشه ، وكان من أوائل الذين فروا التركمان بما فيهم دقاق ملك دمشق ، وثبت جناح الدولة فترة ثم أسرع بالفرار هو الآخر ، ثم فرَّ في النهاية كربوغا نفسه ، وأسرع المسلمون في كل إتجاه ، وكانت الأوامر من قادة الصليبيين ألا يلتفت الجيش إلى الأسلاب والغنائم وإنما يتتبعون المسلمين ، وهكذا تمت مطاردة شرسة لمسافة ثلاثة كيلو مترات شرق أنطاكية حتى حصن حارم , قُتل فيها عدد كبير من المسلمين ، ثم عاد الصليبيون ليجمعوا ما لا يحصى من الغنائم والمؤن والسلاح ، ووصل كربوغا في فراره إلى الموصل ، وكذلك دقاق إلى دمشق . لقد كانت مأساة حقيقية لهذا التجمُّع الإسلامي ! وما أشد الشَّبه بين هذه التجمعات الفاشلة التي رأيناها ، وبين تجمع الجيوش العربية لحرب اليهود في سنة (1367هـ) 1948م في فلسطين ، فالجيوش لم تخرج لله ، ولم تخرج لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا تعرف قرآنًا ولا سنة ، إنما خرجت لذرِّ الرماد في العيون ، أو للحفاظ على مُلك بائدٍ ، أو لأخذ نصيب من الأرض ، ومَن كانت هذه نواياه فلا يتحقق له نصر أبدًا . ولنا في التاريخ عبرة ! صارت أنطاكية بذلك مدينة صليبية ، ويَئِس المسلمون آنذاك من تحريرها، لكن الصليبيين وجدوا أنفسهم أمام عدة مشاكل ضخمة في أنطاكية ، منعتهم من التقدم مباشرة صوب بيت المقدس، الذي كان الهدف الأول من هذه الحملة . 1- فمن المشاكل الضخمة التي واجهت الصليبيين هو تناقص عددهم بصورة مخيفة؛ فلقد واجهوا السلاجقة منذ لحظة نزولهم في آسيا الصغرى ، ومنذ موقعة نيقية في (490هـ) مايو 1097م - أي أكثر من سنة - في عدة معارك، وقُتل من الصليبيين عدد كبير، ثم إن الكثير منهم هلكوا في المسافات الكبيرة التي قطعوها دون غذاء كافٍ أو ماء ، وهلك منهم عدد آخر في الحصار الطويل لمدينة أنطاكية ، سواء في المرحلة الأولى التي حاصروا فيها المسلمين ، أو في المرحلة الثانية التي حاصرهم المسلمون داخل المدينة، ثم هلك منهم عدد آخر في الموقعة الأخيرة ضد كربوغا، وأخيرًا هلك عدد ضخم في الأوبئة التي انتشرت في أنطاكية نتيجة كثرة القتلى . لقد تناقصت بشدة أعداد الصليبيين إلى الدرجة التي صعب معها السيطرة على كل الأبراج في الأسوار الطويلة لأنطاكية ، فكيف بإعداد العدة للزحف نحو بيت المقدس ، هذا فضلاً عن أن الذي بقي من الصليبيين يعاني من الإعياء والإجهاد الشديد، ولا يَقْوَى على قطع المسافة الكبيرة من أنطاكية إلى بيت المقدس - 600 كيلو متر تقريبًا - فضلاً عن أنهم قد يقاتلون هناك الدولة العبيدية بكل مقدرات الجيش المصري آنذاك . هذه الأزمة الكبيرة جعلتهم يفترون عن الزحف إلى بيت المقدس ، ولم يكن هذا الفتور لأيام معدودات، إنما إستمر ستة أشهر كاملة .. 2- وهذه الأزمة أيضًا دفعتهم إلى عدم القدرة على إعلان العصيان المباشر للدولة البيزنطية، فهم مع كونهم من البداية يكرهون الإمبراطور البيزنطي المتسلط عليهم بقرارته والمخالف لهم في العقيدة ، ومع كونهم يشعرون أنه لم يشارك معهم بجدية في حصار أنطاكية، ومع كونهم يحنقون عليه أشد الحنق لعدم نجدتهم في حربهم ضد كربوغا في (491هـ) يونيو سنة 1098م ، إلا أنهم يدركون أنهم قد يحتاجون إلى إمكانيات الدولة البيزنطية في أي لحظة[85]، وهذا الشعور جعلهم يتحفظون في التعامل مع مشكلة أخرى كبيرة قابلتهم بعد إسقاط أنطاكية ، وهي اكتشافهم أن بداخلها أعدادًا كبيرة من النصارى الأرثوذكس ، وكان الصليبيون لا يثقون بهم ، ويعرفون أنهم يدينون بالولاء للدولة البيزنطية قلبًا وقالبًا ، ومع ذلك فإن الصليبيين ما استطاعوا أن يعلنوا هذه المخاوف ، بل إنهم عظموا جدًّا من شأن بطريرك الأرثوذكس حنا الرابع، ووضعوه على رأس كنيسة أنطاكية ، ولم يعزلوا القساوسة الأرثوذكس من أماكنهم ، وإكتفوا بوضع قساوسة كاثوليك على بعض الكنائس الشاغرة , وكل هذا كنوع من التقارب مع الدولة البيزنطية ، وشراء ودِّها إلى اللحظات الأخيرة . 3- وكان من المشاكل الضخمة التي واجهتهم أيضًا خلوُّ مخازن المدينة من الغلال والمؤن على عكس ما توقع الصليبيون ، فطول مدة الحصار وإنشغال الناس في الحرب ضيَّع ثروات البلد ، ولم يبق شيء يعتمد عليه في مخازنها , وعلى هذا ففي الأيام القادمة لا بد أن يدبر الجيش الصليبي حاله ، إما عن طريق الإمدادات الخارجية من أوربا أو الدولة البيزنطية ، وإما عن طريق الإغارة على المدن والقرى المجاورة، وإلا سيقع الجيش في أزمة اقتصادية طاحنة . غير أن أعظم المشاكل التي واجهت الصليبيين ، هي مشكلة من الذي يجب أن يحكم أنطاكية ؟ فبوهيموند كما وضحنا كان يجعل هذه قضية مصيرية في حربه من البداية، وما خرج هذا الهدف من ذهنه منذ غادر إيطاليا، وحتى اللحظة التي دخل فيها أنطاكية، واشترط بوضوح على زعماء الحملة الصليبية أن يجعلوا أنطاكية خالصة له إذا بقي معهم للقتال .. هذه كانت أحلام بوهيموند !! فهل كانت هي الأحلام الوحيدة في القصة ؟! لقد نازعه في حلمه هذا زعيم صليبي آخر في غاية الطموح هو ريمون الرابع كونت تولوز ، فهذا الزعيم - وإن كان في بادئ القصة يتظاهر بالتدين والورع واتِّباع رأي البابا ، وإعلان أنه لا يستطيع أن يقسم بالتبعية لإمبراطور بيزنطة لأنه يتبع المسيح ! وحمله للحربة المزعومة أمام الجيش الصليبي - أظهر عند سقوط أنطاكية مشاعر مختلفة تمامًا! لقد ثار ريمون الرابع على بوهيموند ، وقال : إنه لا يستحق فضلاً زائدًا عن بقية الزعماء ، وتنكَّر لمواقفه السابقة بإعطاء أنطاكية لبوهيموند حال سقوطها. ولم يكن اعتراض ريمون باللسان فقط، ولكن كان بالسلاح أيضًا ! إذ أخذ جيشه وسيطر على بعض الأبراج والأبواب ، ورفض التسليم لبوهيموند ، وإشتعل الجدال في أنطاكية بين مؤيد ومعارض .. ولم يكن ريمون هو الوحيد الذي ينازع بوهيموند إمارة أنطاكية ، فهناك الإمبراطور البيزنطي الذي يجد أنطاكية حقًّا دينيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا للدولة البيزنطية ، وفوق ذلك فهناك إتفاقية القسطنطينية التي عقدت سنة 1097م ، وتقضي بتسليم المدن البيزنطية القديمة وعلى رأسها أنطاكية للدولة البيزنطية .. فلمن يكون حكم أنطاكية ؟! إن هذا الصراع ليدلنا بأقوى الأدلة أن هؤلاء الزعماء ما خرجوا خدمة للدين ولا حماية للصليب، ولا طمعًا في إرضاء المسيح عليه السلام , إننا رأينا من الجميع - تقريبًا - رغبة حميمة في تحقيق المجد الشخصي، بصرف النظر عن الواجب الديني الذي خرجوا من أجله . فهاهو الإمبراطور البيزنطي الذي طلب النجدة من البابا وصوَّر حال الحجيج النصارى بشكل بائس ، ها هو لا يحمل همًّا سوى توسيع سيطرته على المدن التي أخذها السلاجقة قبل ذلك، وعند أول اختبار حقيقي لشجاعته وتجرُّدِه أثناء حصار أنطاكية إذا به يتقاعس ، ويرفض القدوم تاركًا الحملة الصليبية تواجه مصيرها، مع أنها من المفترض أنها جاءت لمساعدته ! وها هو بلدوين ينعزل عن الجيش ويقنع بإمارة الرها ، ولا يفكر في إكمال الرحلة إلى بيت المقدس ! وها هو بوهيموند يقنع كذلك بإمارة أنطاكية ، ويتحايل على الجميع لكي يضمن لنفسه ملكًا، بصرف النظر عن قضية القدس، وبصرف النظر عن حقوق غيره وأطماعهم! وها هو بطرس الناسك يهرب من حصار أنطاكية الصعب ، ويجبره تانكرد على الرجوع ذليلاً مهينًا ! وها هو تانكرد من قبل يتصارع مع بلدوين على طرسوس حتى رفعوا السلاح على بعضهم البعض ! وها هو كذلك ستيفن دي بلوا يترك الجمل بما حمل ، ويأخذ جيشه ويقفل عائدًا إلى فرنسا في اللحظات الأخيرة من الحصار ، عندما أدرك أن أحلامه في الملك تبددت ! إن جميع المحتلين يرفعون شعارات برَّاقة خادعة للسيطرة على عقول شعوبهم وجيوشهم ، وأيضًا لتخدير الشعوب المحتلة وتسكيتها؛ فهذا يقاتل من أجل المسيح ، وذاك يدافع عن الحجيج ، وهؤلاء يريدون استقرار الديموقراطية ، وأولئك يدافعون عن حقوق الإنسان . وهكذا تبدو حروبهم من أجل الفضيلة ، والأصل أنها لا لشيء إلا للأمجاد الشخصية والأطماع الذاتية ! ماذا يفعل الزعماء الصليبيون إزاء هذه المشكلة العظمى؟! لقد عقد الزعماء الصليبيون اجتماعًا مهمًّا في أوائل يوليو 1098م يقررون فيه مصيرهم ومصير أنطاكية ومصير بيت المقدس , إن طاقتهم الآن هزيلة عن بلوغ بيت المقدس ، وخاصةً أنهم سيحاربون هناك جيشًا مستريحًا مستقرًّا ، وهم لا غنى لهم عن الدولة البيزنطية في هذه المعركة القادمة ، ومن ثَمَّ فهم سوف يطلبون طلبًا صريحًا من الإمبراطور البيزنطي أن يساندهم في هذا المشروع، لكن الإمبراطور البيزنطي لن يقبل بالمساعدة إلا إذا أخذ أنطاكية ، ومن هنا إتفق الزعماء بما فيهم بوهيموند وريمون على تسليم أنطاكية إلى الإمبراطور البيزنطي ، بشرط أن يأتي بنفسه على رأس جيش كبير يشاركهم في احتلال بيت المقدس , ولم يستطع بوهيموند أن يعترض في هذا التوقيت ؛ لأنه كان يعلم أن قوتهم قاصرة عن إتمام هذه المهمة وهم في هذه الحالة الواهنة ، وعلى ذلك فإذا جاء الإمبراطور البيزنطي فسوف يساعدهم في تحقيق أحلام أوسع ، وإذا لم يأتِ لم يسلموا له أنطاكية، وعندها يفتحون ملف أنطاكية من جديد ليروا من أحق الزعماء بها . إستقر على ذلك الأمراء الصليبيون ، وأرسلوا رسالة إلى الإمبراطور البيزنطي يطلبون منه فيها أن يأتي لتسلُّم أنطاكية بشرط المساعدة في احتلال بيت المقدس . ماذا كان ردُّ فعل الإمبراطور البيزنطي لهذه الرسالة؟! لقد كان الإمبراطور ألكسيوس كومنين نفعيًّا إلى أقصى درجة ، فهو يريد أن يجني ثمار دون تضحية ، ثم إنه كان خبيثًاً يريد أن يمسك بكل أطراف اللعبة في يده ، وليس عنده مانع أن يتحالف مع عدو أو أن يخون صديقًا ! لقد أراد الإمبراطور أن يستغل الجيش الصليبي في كسر المقاومة الإسلامية دون أن يعطيهم شيئًا ، وقد خَبُرهم في آسيا الصغرى ، ورأى أنهم سلموه كل المدن , وهم وإن كانوا يطمعون في أنطاكية الآن فإنهم لن يستطيعوا الصمود طويلاً بعيدًا عن بلادهم ، إنه أراد أن يستنفزهم لأقصى درجة ، فيقتلون المسلمين ويقتلهم المسلمون ، حتى إذا خلت المنطقة من الأقوياء تقدم الإمبراطور ليتسلم كل الميراث بجهد يسيرٍ أو دون جهد ! إنها خطة خبيثة تقوم بها الكثير من الدول الاستعمارية ذات الخبرة الطويلة في المؤمرات والمكائد ! إنها تدفع فريقًا ليحارب فريقًا آخر، وقد تدل كل فريق على عورات الآخر ، حتى إذا فنيت القوتان دخلت هي لتجمع كل الثمرات . ومن هنا فكر الإمبراطور أن يتريث في الأمور ، ولا يرفض رفضًا باتًّا؛ لكي لا يوغر صدور الصليبيين ، ولا يقدم قدومًا سريعًا فيوغر صدور العبيديين المسيطرين على بيت المقدس الآن ؛ ولذلك فقد قرر الإمبراطور أن يتجاهل الرد على الرسالة حتى يمر بعض الوقت، وتزداد الأزمة اشتعالاً ! من جانب الصليبيين فقد وجدوا أن الإمبراطور لا يرد طلبهم ، وهم لا يستطيعون البقاء فترة طويلة دون الانتهاء من مهتمهم ؛ ولذلك قرروا تحديد موعد لغزو بيت المقدس بصرف النظر عن موافقة الإمبراطور ، وكان هذا الموعد في (491هـ) نوفمبر 1098م، بعد أن تخف درجة الحرارة .. أما الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين فلم يكتف باللعب بزعماء الصليبيين ، ولكن أراد أن يتعامل مع الجهة الأخرى أيضًا ، فتراسل مع العبيديين بمصر وهو يعرض عليهم صورة من صور التعاون ! ولكن لسوء حظِّه وقعت رسالته إلى العبيديين في قبضة الصليبيين ، فأدركوا أنه يلعب بهم .. هنا قرَّر زعماء الحملة الصليبية أن يخرجوا بمفردهم إلى بيت المقدس ولكن بعد الاستعداد الكافي عن طريق جمع المؤن ، وتثبيت الأقدام في أنطاكية وما حولها ؛ ولذلك أمضى زعماء الصليبيين شهري أغسطس وأكتوبر في بعض الحملات في المناطق المحيطة بأنطاكية ، وفي هذه الأثناء كان بوهيموند يحاول أن يظهر دائمًا في صورة أمير أنطاكية الأوحد .. وفي يوم 5 من نوفمبر 1098م عقد الصليبيون اجتماعًا قرروا فيه الزحف صوب بيت المقدس , ومن جديدٍ برزت مشكلة إمارة أنطاكية ، وتنازع الزعيمان بوهيموند وريمون الأمرَ، وأعلن بوهيموند العصيان المباشر على إمبراطور الدولة البيزنطية، وأكد ذلك بعزل حنا الرابع من الكنيسة الأرثوذكسية؛ ليصبح بذلك أميرًا لأنطاكية وغير متقيد مطلقًا بالقسطنطينية ، غير أن الأمير ريمون وجد أنه لكي يستولي على أنطاكية فإنه يجب أن يوالي الإمبراطور ألكسيوس كومنين ليتغلب على بوهيموند ، وهكذا أدت المصالح إلى اختلاف الولاءات اختلافًا بيِّنًا !! فهذا بوهيموند الذي كان أقرب الأصدقاء إلى الإمبراطور البيزنطي يعلن العصيان ليتملك أنطاكية، ناسيًا يمينه الذي أقسمه بالتبعية للإمبراطور، وهذا ريمون الذي رفض أن يقسم بالتبعية للإمبراطور يعلن أنه يقف إلى جواره !! وتعالت الأصوات ، وكاد السلاح يعلو أيضًا بين الزعيمين الصليبيين ! وإستاء بقية الزعماء جدًّا وأيضًا الجند ، وحدثت ثورة عجيبة في أنطاكية ، حيث قرر الزعماء والجند معهم أن يهدموا أسوار أنطاكية إذا لم يكفّ الزعيمان عن حربهما ، وساعتها سيتركونهم مكشوفين للبيزنطيين والمسلمين على حدٍّ سواء، وسوف يتجه الجيش بكامله إلى بيت المقدس ... هنا شعر بوهيموند وريمون بالخوف الشديد أن ينفذ الصليبيون تهديدهم ، فجلسوا في هدوء ليبحثوا حلاًّ للموضوع، ولكي يقطعوا الوقت ويشغلوا الناس حتى الوصول إلى حلٍّ قرروا الخروج جميعًا في حملة إلى معرة النعمان، وهي إلى الجنوب الشرقي من أنطاكية، وهي من أعمال الحلب ، وحاصرها الصليبيون بالفعل ، واستعانت أهلها برضوان ملك حلب إلا أنه لم يعرهم اهتمامًا يذكر ، وكان أن إستسلمت المدينة في (492هـ) 11 من ديسمبر 1098م للصليبيين بعد أن أعطوهم الأمان ، لكن - للأسف - بعد سقوط المدينة لم يلتزم الصليبيون بعهدهم ، وأجروا فيها مذبحة عظيمة ، وسلبوا كل شيء، وأحرقوا المدينة عن آخرها . ثم تنافس الأمراء من جديد في قضية النزاع بين بوهيموند وريمون ، ووجد ريمون أن عامة الأمراء يرجحون كفة بوهيموند ، فآثر أن يخرج بشيء ، فعرض أن يقود الحملة الصليبية إلى بيت المقدس ، ويصبح هو بذلك القائد الأعلى ، فوافق الأمراء لتحل المشكلة ، ويبقى بذلك بوهيموند أميرًا على أنطاكية , وهكذا فضَّل بوهيموند أن يتخلف عن حملة بيت المقدس ، ناسيًا قصة الحجيج ليقنع بإمارته التي كانت حلمًا قديمًا له !! ولبس ريمون ملابس الحجاج ، وخرج حافي القدمين يقود الجيوش في رحلة دينية لاحتلال بيت المقدس ، وكان ذلك في (492هـ) 13 من يناير 1099م ، بعد أكثر من سبعة أشهر من سقوط أنطاكية ، وقد حاول أن يقنع الجميع أنه يتحرك إرضاءً للمسيح ، ولكن من الواضح أن تمثيليته أصبحت مكشوفة ، وهكذا كل التمثيليات لأمثال هؤلاء النفعيين من الزعماء !! | |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق