عندما تجري الرياح بما يشتهي فلاديمير بوتين
آخر القياصرة
مشى على البساط الأحمر،
داخلا قصر الكرملين كقيصر. صفق له القوميون الروس.. طويلا، واكتأب
الديمقراطيون الجدد واليساريون، خارجين في زمهرير موسكو في مظاهرات صاخبة،
احتجاجا على إعادة انتخابه، فهم يرون في إتيانه للسلطة نعيا للديمقراطية،
التي تعهد الرجل بتعزيزها في خطاب تنصيبه الأخير.
يرى القوميون في فلاديمير بوتين محييا لأمجاد روسيا القديمة، ووريثا
لقياصرتها بل وبلشفييها، ويرى فيه الديمقراطيون واليسار مدمرا، وسدا
كيجيبيا عنيدا، وحجر عثرة في وجه التحول الحتمي للمجتمع الديمقراطي.تولى الرئاسة ثمانية اعوام متتالية. كلا بل هو كان رأسها منذ أن اختاره بوريس يلتسن رئيساً لحكومة روسيا الاتحادية في أغسطس (آب) عام 1999، وما أن استقال يلتسن في اليوم الأخير من عام 1999، حتى غدا الرئيس الفعلي للبلاد.. وهو يديرها حتى هذه الساعة، دع عنك الانتخابات، وما أدراك ما الانتخابات.
قفزات متتالية
فهذا الرجل، الذي أمسك بزمام الرئاسة بشكل علني بعد أربعة أعوام، وكان يديرها من وراء حجاب، ربح الرئاسة بنسبة كبيرة فاقت 63 في المائة.فلاديمير بوتين كان عمره ثماني سنوات بالتمام والكمال، عندما ضرب الرئيس السوفياتي الراحل نيكيتا خوروشوف الطاولة بحذائه في اجتماع للأمم المتحدة عام 1960. حركة كانت جريئة في حينها، ولكنها كانت أحد الأسباب التي وضعتها اللجنة المركزية في توصياتها بتنحية هذا السياسي عن الحكم. لذا فإن نفحات الخوروشوفية ودخانها لفحاه. ونشأ في ظل التجاذبات التي كان الاتحاد السوفياتي يشهدها ممثلا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي والصراع الذي كان دائرا على السلطة داخله.
لم يكن الرجل دخيلا عن السلطة، فقد تسنم مواقع سلطوية كثيرة، وكان يقفز من موقع إلى آخر بسرعة. فبعد إنهائه بنجاح المرحلة الجامعية متخرجا في كلية القانون، أدى الخدمة الالزامية في هيئة أمن الدولة، ثم عمل في جهاز المخابرات العتيد «كي.جي.بي»، وفي هذا العالم المتناهي، عمل في فرع «المخابرات الأجنبية». بعد ذلك كانت الفرصة مواتية لإرساله للعمل في ما وراء الحدود إلى الجمهورية البائدة «ألمانيا الشرقية»، حيث بقي فيها من عام 1985 حتى رأى أمام أنظاره انهيار دولته القوية وسقوطها بنهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي. ولكنه ما ان عاد حتى صعد نجمه، وبدأ يخطو خطوات متسارعة نحو السلطة.
فكانت أولى محطاته الجامعة التي تخرج فيها لينينغراد متوليا منصب مساعد رئيس الجامعة للشؤون الخارجية، لكنه قفز فجأة ليصبح مستشارا لرئيس مجلس المدينة. وفي أغسطس عام 1996 كان مسؤولا للشؤون الإدارية في الرئاسة الروسية.
ولكنه لم يبق في هذا المنصب سوى عام واحد حتى غدا نائبا لمدير مكتب الرئيس الروسي ورئيسا لإدارة الرقابة العامة في هيئة الرئاسة. ثم أضحى نائبا أول. وفي 1998 عين مديرا للأمن في روسيا الاتحادية.
لقد غدا لسان حال بوتين وهو يمضي من منصب إلى آخر قائلا:
على عجل كأنّ الريحَ تحتي
أسيّرها يمينا أو شمالا
يبدو أنها ألفية مباركة على بوتين، فهل يا ترى مباركة على الروس؟! فللروس سوابق مع الرقم 17، فقبل أن تنتهي ولاية بوتين الأولى ذات الـ6 سنوات، سيكون هذا الرقم ماثلا أمامهم هم ورئيسهم. إنها الذكرى المئوية لثورة البلشفيين التي كسّرت نظام القياصرة. أمام بوتين أقل من 5 سنوات لإصلاح روسيا، والبحث عن سبل لتحسين الوضع المعيشي، والحد من تكميم الأفواه، وإنعاش الاقتصاد، وإعادة مصانع روسيا العظمى إلى سابق عهدها للقضاء على البطالة، وقطع دابر الجريمة المتفشية في هذا البلد الشاسع والمترامي الأطراف.
أمجاد روسيا
فهل يضحي الروس بالديمقراطية الغربية، في سبيل الوصول إلى المجد القديم.. روسيا القيصرية أو حتى الشيوعية؟!ولكن حتى وإن حاول الروس السير نحو أفق الديمقراطية، فإن عيني رئيسهم مركزتان على أمجاد روسيا، والفرق شاسع بين أن تكون أعين الشعب مصوبة نحو التحرر والانعتاق من زمن الستار الحديدي، وبين أن تكون عينا الرئيس رهينتي المحبس المؤثل.
وعلى الرغم من أن رجل الكرملين تقلقه المعارضة، وتفسد عليه نومه، لدرجة أنه نعتها بأنها (تنفذ أجندات خارجية) إلا أنه يبدو أن الرياح الآن تجري بما يشتهي بوتين التي وجه اتهاما مباشرا لا لبس فيه إلى الولايات المتحدة، وقال إنها من يدفع هؤلاء الناس إلى التظاهر. وكال التهم إلى وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أيام الانتخابات الروسية، مشيرا إلى أن «هناك من يستمعون لتصريحاتها، فيسعون إلى إثارة الاحتجاجات والمظاهرات. فهي تقول إن الانتخابات ليست نزيهة على الرغم من انها لم تتلق تقارير من المراقبين». وفي لهجة تحذيرية قال إن «بلادنا يجب أن تزيد من يقظتها في التصدي للجماعات الأجنبية التي تأثر على السياسة الداخلية للبلاد، وينبغي سوق هؤلاء للمحاكمة».
ومضى بعيدا حين قال في يناير (كانون الثاني) إن العالم مهدد بظهور «قوى هدّامة في بعض دول العالم، هاجسها تقويض أمن الشعوب واستقرارها». وفي إشارة على ما يبدو لأميركا والغرب عموما قال إن هناك دولا «تنتهك القانون الدولي وسيادة الدول، عن طريق التدخل العسكري المباشر، تحت ذريعة الدعوة للديمقراطية، وفي هذا فهي لا ترى نفسها أنها تنتهك بذلك حقوق الإنسان».
وفي ظل هذه الفوضى المالية، والتردي الاقتصادي، يشعر بوتين بشيء من القوة، ويرى أن بلاده مازالت لديها الفرصة في تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب، فلسان حاله يقول: هل تودون أن تكونوا مثل جيرانكم من الأوروبيين الذين يترنحون؟!
هل الروس يحنون إلى أمجادهم القديمة، وهل يرون في ضابط الكي جي بي هذا معيدهم إلى ماضيهم التليد؟!
خرج الروس في مظاهرات عارمة، رأى فيها كثير من المحللين أن ربيعا روسيا على غرار الربيع العربي، يدهم الكرملين وقادته، وينذر بالتغيير في هذا البلد الذي حكمه عتاة الشيوعية وجلاوزتها بالحديد والناس. لقد ودّ هؤلاء تنفس هواء الحرية الذي حرموا منه طويلا. ولكن القيصر عرف من أين تؤكل كتف المعارضة. وفي المقابل هناك كلام عكس هذا تماما. وانصاره هم القوميون الروس الذين يدعون إلى ستار حديدي من نوع آخر يعيد للبلاد هيبتها ومجدها التليدين.
التهيئة للقيصر
هيأ الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف الأمر لبوتين، ونظف له الساحة أمامه حتى لا يصطدم مع أحد. فلا مجال له للعراك والصراع. فقبل أن يترك الكرملين بسويعات محدودة، أصدر أمرا بتعيين الأميرال فيكتور تشيركوف قائدا للبحرية الروسية، بينما بات الجنرال فيكتور بونداريف قائدا للقوات الجوية. وكان الرئيس الروسي قد أصدر قرارا في أبريل (نيسان) الماضي، يقضي بتعيين الجنرال الكسندر بوستنيكوف قائدا للقوات البرية، في ما قرئ على أنه تهيئة لما يتمشى مع طموحات بوتين التي يصر على تحديث الجيش الروسي ومده بكل الأسلحة والمعدات الحديثة.كل الأمور هيئت قبل قدوم بوتين إلى الكرملين حتى صواريخ أرض ـ جو «اس.اس 400» الجديدة أخذت مواقعها حول العاصمة موسكو كذراع صاروخي لحماية العاصمة.
ويرى مراقبون أن هذا الاتجاه ربما كان سيقابل ببعض المعارضة والرفض من داخل القوات المسلحة، لذا فإن مناصري بوتين تحرزوا لهذا، وتداركوا الأمر قبل أن يتولى بوتين المنصب الرئاسي. فيجد كل شيء جاهرا من دون أية إحراجات. فرجل روسيا القوي يبدو أنه لا يتحمل المشاحنات والشد والجذب. فهو يريد أن ينفذ برامجه بهدوء وسكينة.
لقد وضع هذا الرجل وبالأرقام برنامجه التسليحي المخيف. وكأنه بهذه الخطوة يعلن ميلاد روسيا الجديدة.
ويقول مراقبون للشأن الروسي، إن بوتين ما كان له أن يهنأ في منصبه من دون أن يتخلص من مردوخ روسيا فلاديمير جوسينسكي الذي كان رئيسا للمؤتمر اليهودي الروسي وكان قيصر الإعلام في روسيا. لكن تسوية حدثت في ما بعد، هُرب على أثرها جوسينسكي إلى إسرائيل، بعد تمكنه من بيع وسائل إعلامه.
لا شك أن بوتين رجل فطن، ولكن أما يخشى أن يكون حاله كقبرة طرفة:
يا لكِ مِنْ قُبّرَةٍ بمَعْمَرِ/ خلا لكِ الجوّ فبِيضي واصْفِري
قد رُفِعَ الفخُّ فماذا تَحْذَري/ ونَقّري ما شِئتِ أن تُنقّري
قد ذَهَبَ الصّيّادُ عنكِ فابشِري/ لا بُدّ يَوماً أن تُصادي فاصبري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق