عالم الاقتصاد الهندي الحاصل على نوبل: الحرية الفردية التزام اجتماعي
يشكل كتاب أمارتيا صن دراسة تحليلية عن الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشمل ضروباً مختلفة من المؤسسات والقوى المتفاعلة.
ميدل ايست أونلاين
كتب ـ محمد الحمامصي
التصدي للمشكلات
حرية الفعالية التي تتهيأ للأفراد من أبناء شعوبنا تحكمها وتصبغها بالحتم الفرص الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتاحة، إذ ثمة علاقة تكامل بين الفعالية الفردية والتنظيمات الاجتماعية، وكم هو مهم الاعتراف في آن واحد بمحورية الحرية الفردية وقوة المؤثرات الاجتماعية على نطاق ومدى الحرية الفردية، وإن علينا ـ كما يؤكد عالم الاقتصاد الهندي أمارتيا صن في كتابه "التنمية حرية" الذي ترجمه شوقي جلال وصدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة ـ لكي نتصدى للمشكلات التي تواجهنا، "أن نعتبر الحرية الفردية التزاماً اجتماعياً"، وهذا هو النهج الأساسي الذي يحاول هذا الكتاب استكشافه وتفحصه على نحو دقيق.
يؤكد الكتاب أن اتساع نطاق الحرية يتمثل في أن الغاية التي لها الأولوية والوسيلة الأساسية للتطوير والتنمية، وقوام التنمية إزالة مختلف أنماط افتقاد الحريات التي تحد من خيارات الناس وتقلص فرص ممارسة فعاليتهم المبررة.
ويشير إلى أن إزالة المظاهر الموضوعية لافتقاد الحريات مكون أساسي للتنمية والتطوير، "بيد أننا إذا شئنا الوصول إلى فهم كامل عن الرابطة بين التنمية والحرية فإن علينا تجاوز حدود هذا الاعتراف الأساسي مع الإيمان بمحوريته".
ويرى بوجه عام أن الأهمية الجوهرية للحرية البشرية باعتبارها الهدف الأساسي للتنمية إنما تستكمله بقوة الفعالية الأداتية لأنواع محددة من الحريات من شأنها دعم وتعزيز حريات من نوع آخر، و"لا ريب في أن الروابط بين مختلف أنماط الحريات هي روابط تجريبية وعلمية وليست تكوينية وتشكيلية، مثال ذلك، ثمة دليل قوى على أن الحريات الاقتصادية والسياسية تساعد في تعزيز بعضها بعضاً، لا أن يعادى أحدها الآخر على نحو ما يراها البعض أحياناً"، كذلك بالمثل "فإن الفرص الاجتماعية للتعلم والرعاية الصحية التي ربما تستلزم نشاطا عاماً من شأنها أن تكمل الفرص الفردية للمشاركة الاقتصادية والسياسية، وتساعد أيضاً في ترسيخ مبادراتنا للتغلب على مظاهر الحرمان التي نعانى منها".
ويقول أمارتيا "إذا كان منطلق نهجنا يتمثل في تحديد الحرية باعتبارها الهدف الرئيسي للتنمية، فإن مرمى تحليل السياسة يتمثل في تأسيس الروابط التجريبية التي تجعل النظرة إلى الحرية متسقة منطقياً ومقنعة وقوية باعتبارها المنظور الإرشادي الموجه لعملية التنمية".
ويشكل الكتاب دراسة تحليلية متكاملة عن الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشمل ضروباً مختلفة من المؤسسات والكثير من القوى المتفاعلة، ويركز بخاصة على الأدوار والترابطات بين عدد معين من الحريات الأداتية الحاسمة بما في ذلك الفرص الاقتصادية والحريات السياسية والتسهيلات الاجتماعية وضمانات الشفافية والأمن الوقائي.
ويبحث أمارتيا التنظيمات الاجتماعية والتي تشتمل على مؤسسات كثيرة "الدولة والسوق والمنظومة التشريعية والأحزاب السياسية والإعلام ـ الميديا وجماعات المصالح العامة ومنتديات النقاش العامة وغيرها" في ضوء إسهاماتها من أجل تعزيز وكفالة الحريات الموضوعية للأفراد باعتبارهم العناصر الفاعلة النشطة للتغيير وليسوا مجرد عناصر سلبية لتلقى المنافع التي توزعها السلطات.
ينبي الكتاب على خمس محاضرات ألقاها أمارتيا باعتباره زميلا رئاسيا للبنك الدولي في خريف 1996، هذا علاوة على محاضرة متابعة واستطراد في نوفمبر/ تشرين ثان 1997، وتتناول النهج الشامل ودلالاته.
ويضيف أمارتيا "أن التنمية يمكن النظر إليها باعتبارها عملية توسع فى الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، وأن التركيز على الحريات البشرية يتناقض مع النظريات ضيقة الأفق في التنمية من مثل القول بتطابق التنمية مع نمو مجمل الناتج القومي أو مع زيادة الدخول الشخصية أو مع التصنيع أو مع التقدم التقني أو مع التحديث الاجتماعي، نعم، يمكن بطبيعة الحال النظر إلى زيادة إجمالي الناتج القومي زيادة دخول الأفراد باعتبارها أدوات مهمة جداً لتوسيع نطاق الحريات التي يتمتع بها أبناء المجتمع، ولكن الحريات تتوقف أيضاً على محددات أخرى، مثل التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية "مثل مرافق التعليم والرعاية الصحية" وكذلك الحقوق السياسية والمدنية "مثل حرية المرء في المشاركة فى المناقشات وعمليات التحقق العامة".
ويوضح أمارتيا أن التصنيع أو التقدم التقني أو التحديث الاجتماعي يمكن لها أن تسهم موضوعياً في توسيع نطاق الحرية البشرية، و"لكن الحرية رهن مؤثرات أخرى في الوقت نفسه، وإذا كانت الحرية هي ما تقدمه التنمية إذن هناك حجة رئيسية تدعم التركيز على هذا الهدف الأشمل بدلاً من التركيز على بعض الوسائل الجزئية أو على عدد من الأدوات التي يجرى انتقاؤها عمداً ولا ريب في أن النظر إلى التنمية في ضوء التوسع في الحريات الموضوعية من شأنه أن يوجه الأنظار إلى غايات تجعل التنمية حدثاً مهماً بدلاً من مجرد التوجه إلى عدد من الوسائل التى لها، مع غيرها دور بارز فى العملية".
ويقول "تستلزم التنمية إزالة جميع المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات، الفقر والطغيان وشح الفرص الاقتصادية، وكذا الحرمان الاجتماعي المنظم، وإهمال المرافق والتسهيلات العامة وكذا عدم التسامح أو الغلو في حالات القمع، والملاحظ أنه على الرغم من الزيادات غير المسبوقة في إجمالي الثروات، إلا أن العالم المعاصر ينكر أبسط الحريات على أعداد مهولة من البشر - بل أكاد أقول على الغالبية من البشر ونشهد أحياناً أن نقص الحريات الموضوعية مقترن مباشرة بالفقر الاقتصادي الذي يسلب الناس حقهم في الحرية لإشباع ما يعانونه من جوع، أو حقهم في الحصول على الغذاء الكافي، أو الحصول على العلاج اللازم لأمراض قابلة للشفاء، أو الحصول على فرصة تهيئ لهم لباساً أو مأوى ملائماً، أو الحصول على ماء عذب نقى أو مرافق صحية، ونجد في حالات أخرى أن افتقاد الحريات وثيق الصلة بالافتقار إلى المرافق العامة والرعاية الاجتماعية من مثل غياب برامج للقضاء على الأوبئة أو برامج لترتيبات منظمة للرعاية الصحية أو المرافق التعليمية أو المؤسسات الكفء لصون السلم المحلى وحفظ النظام، ونشهد في حالات أخرى أن انتهاك الحريات ينتج مباشرة عن إنكار نظم الحكم التسلطية للحريات السياسية والمدنية، كما ينتج عن القيود المفروضة على حق المشاركة الحرة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع".
• الفعالية والترابطات المتبادلة:
لسببين متمايزين يرى إمارتيا أن الحرية أمر محوري لعملية التنمية - التطوير، أولهما السبب القيمى: تقييم التقدم يتعين أساساً أن يكون في ضوء بيان ما إذا كانت حرية الشعب تحظى بالتأييد والمساندة، وثانيهما الفعالية: إنجاز التنمية- التطوير يتوقف بالكامل على الفعالية الحرة للشعب.
ويشدد الاقتصادي الهندي في كتابه على أن الفعالية الحرة أو المستدامة قاطرة رئيسية للتنمية، فالفعالية الحرة ليست فقط جزءاً تكوينياً أساسياً من التنمية، "بل إنها أيضاً تسهم في تعزيز فعالية العناصر والقوى الحرة من الأنواع الأخرى".
ويحلل العلاقة بين الحرية الفردية وإنجاز التنمية الاجتماعية باعتبارها تتجاوز الرابطة التكوينية - على أهميتها وترى أن ما يمكن للناس أن ينجزوه إيجابياً يتأثر بالفرص الاقتصادية وبالحريات السياسية، وبالقوى الاجتماعية وبالشروط الميسرة لضمان صحة جيدة، وبالتعليم الأساسي، وبتشجيع وغرس ثقافة المبادرات، كذلك فإن التنظيمات المؤسسية لهذه الفرص تتأثر هي أيضاً بممارسة الناس لحرياتها ومن خلال حرية المشاركة في الخيار الاجتماعي وفى اتخاذ القرارات العامة الدافعة إلى تقدم هذه الفرص.
ويشدد الاقتصادي الهندي على أن الحريات ليست فقط الغايات الأولية والأساسية للتنمية والتطوير، بل إنها أيضاً من وسائلها الرئيسية، و"علاوة على الإقرار، من حيث الأساس، بالأهمية القيمية للحرية، علينا أيضاً أن نفهم الرابطة التجريبية الواضحة التى تربط الحريات على اختلاف أنواعها ببعضها البعض وتسهم الحريات السياسية "في صورة حرية التعبير والانتخاب" في دعم الأمن الاقتصادي كذلك الفرص الاجتماعية "في صورة مرافق التعليم والصحة" من شأنها أن تيسر المشاركة الاقتصادية، وأيضاً التسهيلات الاقتصادية "في صورة فرص للمشاركة فى التجارة والإنتاج" يمكنها أن تساعد على توليد وفرة شخصية وكذا توليد موارد عامة للمرافق الاجتماعية، معنى هذا أن الحريات على اختلاف أنواعها يمكنها أن تعزز بعضها بعضاً".
ويوضح "إن هذه الروابط التجريبية تعزز الأولويات القيمية، وإذا استخدمنا لغة التمييز في العصور الوسطى بين العنصر المريض والعنصر الفاعل نقول إن هذا الفهم للاقتصاد ولعملية التطوير والتنمية، والمرتكز على الحرية، فهم قريب جداً من النظرية المتجهة إلى الوكيل - العنصر الفاعل إذ مع توفر الفرص الاجتماعية الملائمة، يستطيع الأفراد أن يصوغوا بكفاءة مصيرهم الخاص، وأن يساعدوا بعضهم بعضاً، إنهم ليسوا بحاجة إلى اعتبارهم أولاً وأساساً مجرد متلقين سلبيين لمنافع تدرها برامج تنمية بارعة وثمة مبرر عقلاني قوى يبرر الاعتراف بالدور الإيجابي للفعالية الحرة المستدامة، بل والعجلة البناءة".
المؤلف أمارتيا صن Amartya Sen، عالم اقتصاد هندي، من مواليد دكا – بنجلاديش، أستاذ بجامعة كيمبريدج – ترينيز كوليج، زميل رئاسي للبنك الدولي عام 1996، حائز على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية 1998، شغل منصب الأمين العام لمعهد الدراسات المتقدمة في برنستون، مدافع عن الحرية كمكون أساسي للتنمية والتطوير.
أما المترجم شوقى جلال فهو مقرر لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة – القاهرة، عضو المجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة – جامعة الدول العربية، عضو لجنة قاموس علم النفس في الثمانينيات بالمجلس الأعلى للثقافة، له ثلاثة عشر مؤلفاً من بينها العقل الأمريكي يفكر – نهاية الماركسية - التراث والتاريخ - ثقافتنا والإبداع - أركيولوجيا العقل العربي، له أوراق بحث فى ندوات ومؤتمرات ومقالات ثقافية وفكرية، له أكثر من 60 كتاباً مترجماً منها: السفر بين الكواكب، وبافلوف حياته وأعماله عام 1957، وبنية الثورات العلمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق