بهمن جاذويه يقود الجيوش:
تعجب رستم كثيرًا وأصابته الحيرة والدهشة مما يحدث، إذ كيف ينتصر هؤلاء بعد غياب خالد بن الوليد ومعه نصف الجيش؟! ينتصرون على الفرس في ثلاث مواقع متتالية في تسعة أيام؛ فقال رستم: مَنْ أشدُّ الفُرْسِ على العرب؟
فقالوا له: بهمن جاذويه. وكان أحد كبار قادة الفرس، ولم يشترك في الحروب مع المسلمين حتى هذه اللحظة.
فقال رستم: إذن فهو القائد.
وبذلك أعطى رستم إمرة الجيوش الفارسية لـ "بهمن جاذويه" وأخرجه مع جيش كبير يزيد على سبعين ألف فارسي، وأرسل مع هذا الجيش أكثر من عشرة أفيال. ونحن نعرف ما كان يثيره فيل واحد في صفوف المسلمين من فزع وهلع؛ لأن الخيول لا تجرؤ على مواجهة الأفيال، فكانت تحدث ارتباكًا داخل صفوف الجيش المسلم، فما بالنا بعشرة أفيال؟ وأعطى رستم لـ "بهمن جاذويه" أيضًا راية الفرس العظمى وكانت تُسمى "دارفن كابيان"، وكانت هذه الراية لا تخرج إلا مع الملوك، ولكنه أخرجها معه تشريفًا لهذا الجيش وتشجيعًا له على حرب المسلمين، وكان كسرى فارس في هذه اللحظة "بوران بنت كسرى" وكانت من أحكم سيدات فارس، ولم يكن عندهم حينئذ رجل من آل ساسان يُوكِلون إليه مُلك فارس، وكان "شيرويه" قد قتل كل رجال آل ساسان ليستأثر هو بالحكم، ولكنه قُتِل أيضًا، وآل المُلك إلى تلك المرأة بعد ذلك.
توجّه الجيش الفارسي بهذه الجموع الجرارة لقتال المسلمين، وعلم أبو عبيد بذلك فتوجه بجيشه إلى منطقة في شمال الحيرة تسمى "قِسّ النَّاطِف"، وعسكر بجيشه في هذه المنطقة انتظارًا لقدوم جيش الفرس. وقَدِمَ الفُرسُ، ووقفوا على الجانب الآخر من نهر الفرات، فالمسلمون على الناحية الغربية، والفرس على الناحية الشرقية بقيادة بهمن جاذويه، وكان بين الشاطئين جسرٌ عائم أقامه الفرس في هذه الآونة للحرب -وكان الفرس مهرة في بناء هذه الجسور- وأرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى الجيش الإسلامي يقول له: إما أن نعبر إليكم، وإما أن تعبروا إلينا.
أبو عبيد يخالف نصيحة عمر:
ونذكر نصيحة عمر بن الخطاب إلى أبي عبيد قبل أن يخرج إلى القتال قال له: لا تُفشِينَّ لك سرًّا؛ لأنك مالكٌ أمرك حتى يخرج سِرُّك من بين جنبيك، ولا تحدِثَنَّ أمرًا حتى تستشير أصحاب رسول الله. وأوصاه خاصة بسعد بن عبيد الأنصاري وسليط بن قيس من الصحابة الكرامونلاحظ في هذا الموقف أن الجيش الإسلامي يدخل في منطقة محصورة بين نهر يُسمى النيل -وهو نهر صغير وأحد روافد نهر الفرات- ونهر الفرات، وكلا النهرين يمتلئ بالمياه، والجيش الفارسي يغلق باقي المنطقة، فلو دخل المسلمون هذا المكان فليس أمامهم إلا القتال مع الجيش الفارسي، والفرس يدركون أهمية هذا الموقع جيدًا، فأخلوا مكانًا ضيقًا ليعبر المسلمون إليهم، ويتكدس الجيش الإسلامي في منطقة صغيرة جدًّا، ويرى المثنى بن حارثة ذلك ويعيد النصيحة لأبي عبيد قائلاً له: إنما تلقي بنا إلى الهَلَكَة. ويصرُّ أبو عبيد على رأيه.
وعبر الجيش الإسلامي بالفعل إلى هذه المنطقة، وكان مع الفُرْسِ كما ذكرنا عشرة أفيال منها الفيل الأبيض، وهو أشهر وأعظم أفيال فارس في الحرب، وتتبعه كل الفيلة إن أقدم أقدموا وإن أحجم أحجموا، وتقدمت الجيوش الفارسية يتقدمها الفيلة إلى الجيش الإسلامي المحصور بين نهري الفرات ورافده نهر النيل، وتراجعت القوات الإسلامية تدريجيًّا أمام الأفيال، ولكن خلفهم نهرين فاضطروا للوقوف انتظارًا لهجوم الفيلة وقتالها، وكانت شجاعة المسلمين وقوتهم فائقة ودخلوا في القتال، ولكن الخيول بمجرد أن رأت الأفيال فزعت وهربت، وكانت سببًا في إعاقة إقدام المسلمين على القتال، وعادت الخيول إلى الوراء وداهمت مشاة المسلمين، ولم تفلح محاولات المسلمين لإجبار الخيول على الإقدام لعدم تمرُّسها على مواجهة الأفيال، وفي هذه اللحظة -وبعد أن أخطأ أبو عبيد في إفشاء السر أمام رسول الفرس، وأخطأ في العبور مخالفًا مشورة أصحاب رسول الله، وأخطأ باختياره هذا المكان للمعركة- كان لا بد عليه أن ينسحب بجيشه سريعًا من أرض المعركة، كما فعل خالد بن الوليد في معركة المذار عندما علم أنه سيكون محاطًا بجيش من الجنوب، انسحب سريعًا بجيشه حتى يقابل جيش الأندرزغر في الولجة.
لكن أبا عبيد استقتل وقال: لأقاتلنَّ حتى النهاية. وإن كانت هذه شجاعة فائقة منه، فإن الحروب كما تقوم على الشجاعة لا بد أن يكون هناك حكمة في التعامل مع الحدث. وبدأت أفيال الفرس تهاجم المسلمين بضراوة، وأمر أبو عبيد أن يتخلَّى المسلمون عن الخيول ويحاربوا الفرس جميعًا وهم مشاة، وفقد المسلمون بذلك سلاح الخيول وأصبحوا جميعًا مشاة أمام قوات فارسية مجهزة بالخيول والأفيال، واشتد وَطِيسُ الحرب ولم يتوانَ المسلمون عن القتال، وتقدم أبو عبيد بن مسعود الثقفي
استشهاد أبي عبيد وتولِي المثنى:
ويواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل ويحاول قطع خرطومه، لكن الفيل يعاجله بضربة فيقع على الأرض، ويهجم عليه الفيل ويدوسه بأقدامه الأماميتين فيمزِّقهُ أشلاءً -وفي هذه اللحظة يبدأ بعض المسلمين في الفرار عن طريق الجسر إلى الناحية الأخرى من الفرات، وهذه أول مرة في فتوح فارس يفِرُّ فيها بعض المسلمين من القتال، وهذا الفرار في هذا الموقف له دليل شرعي ولا يُعَدُّ فرارًا من الزحف، وقد قيل: إن الفرار من المثلين جائز، فما بالنا وجيش الفرس ستة أو سبعة أمثال جيش المسلمين؟! ولكن يُخطِئ أحد المسلمين خطأً جسيمًا آخر، فيذهب عبد الله بن مرثد الثقفي ويقطع الجسر بسيفه، ويقول: والله لا يفِرُّ المسلمون من المعركة؛ فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم.
ويُسقَطُ في أيدي المسلمين، ويستأنف الفُرْسُ القتال مع المسلمين، ويزداد الموقف صعوبة، ويُؤتَى بالرجل الذي قطع الجسر إلى قائد الجيش المثنى بن حارثة، فيضربه المثنى، ويقول له: ماذا فعلت بالمسلمين؟ فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال: إن هذا ليس بفرار.
انسحاب منظم عبر الجسر:
وبدأ المثنىفي هذا الوقت كان قد فَرَّ من المسلمين ألفانِ، ومنهم من قد وصل في فراره إلى المدينة، واستُشهِد من المسلمين في هذه الموقعة أربعة آلاف شهيد، وكان قد اشترك فيها ثمانية آلاف قُتِلَ منهم أربعة آلاف ما بين شهيد في القتال وغريق في النهر، ومن هؤلاء الآلاف الأربعة غَالِبُ أهل ثقيف، والكثير ممن شهد بدرًا وأُحُدًا والمشاهد مع رسول الله، وكان الأمر شديدًا على المسلمين، ولولا فضل الله تعالى، ثم تولية المثنى بن حارثة الأمر ما كان لمن نجا أن ينجو من هذه المصيدة المحكمة التي أعدها الفرس للمسلمين، وكان المثنى
كانت موقعة الجسر في 23 من شعبان 13هـ، وكان أبو عبيد قد وصل إلى العراق في 3 من شعبان، وكانت أولى حروبه النمارق في 8 من شعبان، ثم السقاطية في 12 من شعبان، ثم باقسياثا في 17 من شعبان، ثم هذه الموقعة في 23 من شعبان، فخلال عشرين يومًا من وصول أبي عبيد بجيشه انتصر المسلمون في ثلاث معارك، وهُزموا في معركة واحدة قضت على نصف الجيش، ومن بقي فرَّ، ولم يبق مع المثنى
وأرسل المثنى بالخبر إلى المدينة مع عبد الله بن زيد، وعندما يصل إلى المدينة يجد عمر بن الخطاب على المنبر فَيُسِرّ إليه بالأمر نظرًا لصعوبته على المسلمين، فيبكي عمر
وكان هذا الأمر يمثِّل للمسلمين الخزي والعار، ولم يتعودوا قبل ذلك على الفرار من أعدائهم، لكن عمر بن الخطاب
أُلَّيس الصغرى.. وعودة الروح:
وبعد أن انسحب المثنى بقواته من الجسر، فعل شيئًا غريبًا، فقد وصل إلى منطقة الحفير، وتابعتهم بعض قوات الفرس في اليوم الثاني للمعركة 24 من شعبان، وكانت هذه القوات على يقين بعدم وجود أي قوات إسلامية في المنطقة، فيأخذ المثنىاستنفار عام بالجزيرة العربية:
نعود إلى المدينة وها هو عمر بن الخطاب يُطمْئِنُ العائدين من الجسر أنهم ليسوا فارِّين، وأنه لهم فئة، ويحفّزهم للقتال ومساعدة بقايا الجيش الإسلامي الموجود مع المثنى، وتعود القوات الإسلامية مرة أخرى من المدينة وتصبح قوة الجيش الموجود مع المثنىانطلق جرير
وقد كان جرير
قال: جئت لأسلم.
فأعطى له النبي وسادة وأجلسه بجواره وقال: "إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ".
يقول جرير
وكان
وبعد أن أسلم
ويذهب جرير
فيقول عمر
ويحفِّزهم عمر
وتخرج قبيلة بجيلة إلى العراق بقيادة جرير بن عبد الله
تخرج أيضًا قبيلة كنانة وعلى رأسها غالب بن عبد الله أحد صحابة النبي القدامى، وشهد كل المشاهد مع رسول الله، وكان النبي يعتمد عليه كثيرًا في العمليات الحربية التي يقوم بها، وأخرجه النبي على رأس الكثير من السرايا، ومنها السرية التي خرجت إلى قبيلة الكديد، ولم يكن معه سوى بضعة عشر رجلاً، وأغاروا على هذه القبيلة إرهابًا لها وكانت على الكفر والعداء للمسلمين، ويذهب
ومن حروبه
أتى غالب بن عبد الله
ثم أتى من قبيلة الأزد سبعمائة، ومنهم عرفجة بن هرثمة، وكان قائدًا للجيش التاسع من جيوش أبي بكر
ووجهه عمر
وأرسلت قبيلة تَيْم بعض أفرادها، وأمَّر عليهم عمر
وقبيلة بني عمرو وهي فرع من فروع قبيلة تميم، وأمّر عليهم عمر
وأتت مجموعات أخرى من قبائل كثيرة، وبدأت الجيوش الإسلامية تزداد بهذا المدد القادم إليها من المدينة وما حولها.
ووصل تعداد هذا المدد 4000 من المقاتلين، وكان عمر
ويعلم المثنى بن حارثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق