فاسكو دا جاما .. ماذا فعل
بالهنود وبالمسلمين ؟ !
عندما تحدث الأستاذ الهندي الذي كان يدرسنا تاريخ العلاقات الدولية ، عن حركة الكشوف الجغرافية ، ورحلة فاسكو دا جاما إلى بلاده ( الهند ) ، قال إن دا جاما خاطب ملك الهندوس شارحاً مهمته التي جشمته عناء الرحلة من البرتغال قائلاً إنها تتلخص في القضاء على المسلمين . وأكمل الأستاذ روايته قائلاً إن الملك الهندي خاطب الرحالة البرتغالي قائلاً : إن مسلمي الهند هم جزء لا يتجزأ من مملكتي وإنني مسؤول عنهم ، ولا يمكن أن أتآمر ضدهم ، وبذا حال بينهم وبين مذابح مهلكة .
كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بتلك الرواية ، فأطرقت خجلاً وأسفاً على جهلي ، وأنا دائم الإطراق ، شديد الخجل من جهلي ، ومن كثرة الثغرات التي تعتري ما حصلت من علم مغشوش قاصر ، فكم قد درسنا تاريخ الكشوف الجغرافية في حصص الجغرافيا والتاريخ ، ولكن ما علمنا أحد ولا أخبرنا بحقيقة نوايا دا جاما تجاه الإسلام والمسلمين . وبالطبع فما كان لتلك المناهج الدراسية المسلوخة سلخاً من كتب الغربيين أن تخبرنا عن ذلك ، وما كان لنا أن نعرف ما دمنا قد قررنا أن نتلقى العلم عن الغربيين !
وقبيل احتفال البرتغال بالذكرى الخمسمائة لرحلة فاسكو دا جاما ، أنطلقت أصوات الهنود تحتج على إقامة احتفال بذكرى شخص سفك دماءهم ، باعتبار أن ذلك الاحتفال يمثل نوعاً من الاستهتار والاحتقار لتلك الدماء . ورداً على أصوات الهنود التي تعالت بالإحتجاج ، ارتفعت أصوات منظمي الاحتفال تقول بأنهم إنما يحتفلون بفاسكو دا جاما البرتغالي ، لا فاسكو دا جاما الهندي ، بمعنى أنهم يحتفلون بما حققه للبرتغال من كشف أدى بهم للسيطرة على أعالي البحار ، لا بما أصاب به الهند من فتك ذريع ، أوهن ممالكهم وقضى على أقسام عامرة من مجتمعاتهم . وهكذا تأكد أن الاحتفال ينطوي فعلاً على استهانة واحتقار لدماء الهنود .
هذا وإن كانت البرتغال قد عملت على ترضية الهنود وشراء صمتهم بإنشائها لمتحف للثقافة الهندية بلشبونة ، ومشاركتها في بعض البرامج الثقافية بولاية جوا الهندية ، وبإعترافها بأن عام وصول دا جاما إلى الهند كان عاماً صعباً على الهنود . وذلك من غير ما إفاضة في توضيح وجه الصعوبة ، ولا تفصيل يفضي إلى إدانة مسالك دا جاما مع الهنود . وأكثر من ذلك فقد دعا أنطونيو هيسبانا رئيس هيئة الاحتفال بالذكرى نصف الألفية لرحلة دا جاما ، الهنود إلى أن يكفوا عن النوح والعويل ، وإلى أن يطووا صفحة آلام القرن الخامس عشر ! وصرح فاسكو فيليز رئيس مؤسسة الكشوف الجغرافية البرتغالية ، بأن بلاده ليست في حاجة إلى أن تعتذر لأحد بشأن تراث دا جاما قائلاً : " إن دا جاما كان بطلاً غير مصير العالم بأسره إلى الأبد ، وأنه حول مصير العالم إلى مسار أفضل ، ومن العار أن يركز الناس على بعض المآسي والمذابح ، التي ربما اضطر إلى إرتكابها ، أو ربما لم يرتكبها قط " .
ماذا فعل دا جاما في الهند ؟
هذه اللهجة الإعتزازية ، والمتعالية في نفس الوقت ، تخالف ما رصدته كتب التاريخ من أفعال فاسكو دا جاما . وبعض تلك الكتابات التاريخية كانت من تسجيل بعض من كانوا معه على متن السفينة . ولطالما وصف المؤرخون دا جاما بأنه كان ذا قسوة غير عادية ، وكان مما رسخ فيه ذلك الطبع ماضيه الطويل في النخاسة ، إذ قضى مطلع شبابه يمتهن إصطياد الأفارقة من على شاطئ إفريقيا الغربي ليبيعهم في البرتغال . التي لم يخل بيت فيها من العبيد ، وكان مما يؤجج فيه تلك القسوة ، تعصبه الديني ، وطمعه في المقتنيات المادية . ويحكي المؤرخون أنه كان قد خدع في الهنود ، إذ ظنهم نصارى ، وظن معابدهم كنائس ، وجن جنونه عندما اكتشف حقيقة دينهم ، وكانت فجيعته الكبرى عندما رأى المسلمين هنالك ورأى نفوذهم القوي في التجارة والنقل البحري .
وجد دا جاما دويلات هندية صغيرة على الشاطئ تصطرع مع بعضها البعض ، فاستغل الوضع ليحالف بعضها ويوجهها ضد بعضها البعض ، وفي كل الأحوال اشترط أن يعطى إعفاءات وإمتيازات هائلة ، وأن ينصب أميراً لا منازع له على البحر ، وأضاف إلى ذلك شرطاً يقضي بأن يجتث الوجود الإسلامي من جذوره في الهند ، وأن يجرف المسلمون وثقافتهم وتراثهم إلى البحر . أي أن يفعل بهم مثل ما فعل بأشياعهم في الأندلس .
ولدى رفض الهنود لتلك الشروط ، قام دا جاما في سنة 1502 م بقصف مدينة كلكتا . وهذا وصف مختصر لتلك الواقعة مأخوذ من أوراق ملاح جرماني مجهول الاسم رافق دا جاما في رحلته الثانية ، وهي الأوراق التي نشرت لأول مرة في سنة 1905 م وفيها يقول : " وفي السابع والعشرين من أكتوبر سنة 1502 م أبحرنا إلى أن وصلنا إلى مملكة كلكتا ، التي تبعد 40 ميلاً عن كنانور وحشدنا جنودنا عند حدودها ، ثم خضنا معهم حرباً لمدة 3 أيام ، وأسرنا عدداً كبيراً من جنودهم ، قمنا بشنقهم داخل السفن ، وقطعنا أيديهم وأقدامهم ورؤوسهم ، وأخذنا سفينة من سفنهم قذفنا فيها بتلك الأشلاء ، مرفقة برسالة علقناها على عصا ، وبعثنا بتلك السفينة لترسو على ساحلهم " .
كان ذلك ضرباً واحداً من ضروب حرب الترويع التي شنها دا جاما ضد الهنود . والغريب أن دا جاما كان يصب عذابه على البرئ الغافل ليجعل منه أمثولة يرتدع بها الآخرون . والآن فلنقف على ضرب آخر من ضروب تلك القسوة العارمة إذ يحكي لنا صاحب كتاب ( Voyages and Adventures of Vasco da Gama ) المطبوع في سنة 1878 م أن دا جاما اصطحب دليلاً يهودياً يقوده إلى سفن الهنود ، ليقدمه لهم بمثابة صديق ، ذلك بينما كان دا جاما يعد مدفعيته لحرق السفن الهندية . وعندما اطمأن له الهنود واستغرقوا في السبات ، صرخ دا جاما في منتصف الليل آمراً جنوده ببدء القصف ، فأضاء الليل بالقذائف ، واحترقت كل السفن الهندية وتفرق جنود دا جاما يلاحقون الهنود الذين سبحوا ولجأوا إلى الجزر القريبة ، ومزقوهم شر ممزق ... ويقول الراوي أن تلك الحادثة أرعبت كل الهنود وجعلتهم يعاملون البرتغاليين بمزيد من المهابة والاحترام .
وماذا فعل بالمسلمين ؟
كان ذلك بعض ما فعله دا جاما بالهنود ، وقد كانت بعض دوافعه نابعة من شدة الضغن الذي كان يكنه للمسلمين لما رآه من تعايشهم سلمياً مع الهندوس . والغريب أن المسلمين كانوا قد أعانوا دا جاما بكل ما مكنه من نجاح رحلته . فابتداءً كانت الأموال التي أنفقت على الرحلة هي أموال المسلمين البرتغاليين الذين أجبروا على النصرانية ، وكانوا قبل – كما يحكي المؤرخون – يستمتعون بقدر من الحرية الدينية ، وذلك إلى أن تزوج اثنان من أمراء البرتغال بأميرتين إسبانيتين ، جاءت معهما عدوى التعصب ضد المسلمين ، واستحكمت من ثم عقيدة إفناء المسلمين أو تنصيرهم . وهكذا قام الملك عمانويل في سنة 1496 م بمصادرة أموال المسلمين ، وخصصها لصناعة السفن التي مخر بها دا جاما عباب البحر .
وبعد أن تخبط دا جاما لمدة عشرة شهور في البحر اللجي ، وصل إلى شواطئ إفريقيا الشرقية ، واستعان بأمرائها ، فزودوه بملاح ماهر ، بل عالم بجغرافيا البحار ، حيث وضع فيها عدة كتب لا تزال تسعة عشر كتاباً مخطوطاً منها محفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس ( Bibliotheque Nationale, Paris ) فبعد أن تاه فاسكو دا جاما طويلاً في البحر ، ويئس من الوصول إلى الهند ، تصرف أخيراً كقرصان ، إذ احتجز في سفينته الرسول الودي الذي بعثه إليه شيخ منطقة ماليندي ورفض إطلاق سراحه حتى يبعث إليه الشيخ بدليل ماهر يقوده إلى الهند . كان ذلك الدليل الماهر هو أحمد بن ماجد الذي دخل إلى كابينة القيادة ونثر خرائطه الجغرافية ، وقام بتوجيه القبطان إلى أن رست سفينتهم على سواحل الهند في يوم 22 / 5 / 1498 م ، وفوجئ دا جاما بأن التجار المسلمين قد سبقوه إلى هناك ، وأقاموا لأنفسهم مكاناً علياً في كلكتا ، وتزاوجوا مع السكان ونشروا دعوة الإسلام هناك ، وهو الأمر الذي أثار حنق دا جاما ، الذي نشأ على كره المسلمين ، وشهد مآسي طردهم من الأندلس ، وشمت بأميرهم الذي خرج ذليلاً من قصره ليقبل أيدي إيزابيلا ، ولذلك فقد حرص عند رجوعه إلى البرتغال على التحريض على المسلمين والالحاح على ضرورة إفنائهم ، حتى لا يعترضوا سيطرة البرتغال على أعالي البحار . وبالفعل فقد جرد ملك البرتغال حملة كبرى على المسلمين ، قوامها 33 سفينة و 1500 مقاتلاً ، ولكن حالت حماقاتهم واصطدامهم بالساموريين دون نفاذ مخططهم .
إحراق الحجاج :
ولكن مع ذلك لم يخل سجل دا جاما من اصطدامات مباشرة وعنيفة مع المسلمين . ويحكي لنا صاحب كتاب ( Sea Road To The Indies ) وهو من أوثق الكتب عن رحلة فاسكو دا جاما ، القصة التالية عن إجرامه : " وبعد أيام قليلة رأى دا جاما السفينة العربية ( ميري ) قادمة من ناحية الغرب . وهي سفينة تتبع لشقيق خوجة قاسم في كلكتا ، وكانت السفينة قادمة لتوها من مكة ، وفي جوفها 380 من الرجال والنساء والأطفال ، بالإضافة إلى البضائع ، وكان معظم هؤلاء الركاب قد فرغوا من أداء شعيرة الحج متوجهين إلى بلادهم كلكتا ، فقام القائد البرتغالي بمطاردة تلك السفينة واحتجازها بعد أن استسلمت له من غير مقاومة ، بسبب عدم جدوى أي مقاومة لسفينة دا جاما ، التي كانت تحوي عدداً ضخماً من الرجال المدججين بالسلاح . وأمر دا جاما بمصادرة كل البضائع والأسلحة ، ولما أنكر العرب وجود أي ممتلكات ثمينة بحوزتهم أمر الأدميرال بقذف اثنين منهم إلى البحر ، وقذفا فوراً ليلقيا حتفهما غرقاً ، وعندها اعترف الباقون بما يوجد عندهم من المقتنيات الثمينة ، فأخذت وشحنت بالسفينة ( ديجو فيرناندس كوريا ) وخصصت للملك ، بينما قسم بقيتها بين ملاحي دا جاما . وقد استغرقت مهمة تفريغ تلك الأشياء يومين كاملين . ولم يكتف الأدميرال بذلك ، بل أبدى شكه في أن المحمديين ربما أخفوا بعضاً من تلك الأشياء ، وربما أخفوا أيضاً بعض الأسلحة " . وهكذا لم يكتف دا جاما بسلب سفينة مسالمة ، تتبع لقطر ليس في حالة حرب مع بلاده ، " بل واصل قرصنته غير المبررة ليختمها بأخس وأضرى فعل جاء به في حياته العملية كلها ، إذ أمر بكل برود بحشر كل الركاب في مخزن السفينة ، وإشعال النار فيها ، حيث ماتوا جميعاً محترقين " .
هذا الفعل غير المبرر في نظر ذلك المؤرخ الذي روى الواقعة ، يبرره لنا غربي آخر هو بارو ( Barroe ) ، إذ يقول : " صحيح أنه يوجد حق عام للكل للملاحة في كل البحار ، ولكن ذلك الحق مقصور على أوربا ، ولذلك جاز للبرتغاليين باعتبارهم ملوك البحار أن يصادروا – في خارج أوربا – بضائع كل من يجول في تلك البحار بغير إذن منهم " . ويقول بانيكار ، صاحب كتاب Asia And Western Dominance ) ) ، " إن مبادئ القانون الدولي ما كانت تسري على العالم غير الأوربي ، ولذلك تصرف دا جاما بقانون الغاب الذي كان يسري وحده على تلك البقاع " .
وبالطبع ، فإن قانون الغاب لم يكن سارياً على تلك البقاع ، وأبلغ دليل على ذلك ، هو حالة التعايش السلمي الذي شهده دا جاما بين المسلمين والهندوس ، وقد كان كلاهما أكثر تحضراً وإنسانية من البرتغاليين وسائر الغربيين ، وقد طور المسلمون بخاصة ، على يد إمامهم الشيباني ، مواد القانون الدولي ، قبل أن يضع جروشيوس الهولندي كتاله فيه بثمانية قرون ، وظلوا يحكمون به العالم في قسط وبر ، لا يفرقون فيه بين رقع وصقع
عندما تحدث الأستاذ الهندي الذي كان يدرسنا تاريخ العلاقات الدولية ، عن حركة الكشوف الجغرافية ، ورحلة فاسكو دا جاما إلى بلاده ( الهند ) ، قال إن دا جاما خاطب ملك الهندوس شارحاً مهمته التي جشمته عناء الرحلة من البرتغال قائلاً إنها تتلخص في القضاء على المسلمين . وأكمل الأستاذ روايته قائلاً إن الملك الهندي خاطب الرحالة البرتغالي قائلاً : إن مسلمي الهند هم جزء لا يتجزأ من مملكتي وإنني مسؤول عنهم ، ولا يمكن أن أتآمر ضدهم ، وبذا حال بينهم وبين مذابح مهلكة .
كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بتلك الرواية ، فأطرقت خجلاً وأسفاً على جهلي ، وأنا دائم الإطراق ، شديد الخجل من جهلي ، ومن كثرة الثغرات التي تعتري ما حصلت من علم مغشوش قاصر ، فكم قد درسنا تاريخ الكشوف الجغرافية في حصص الجغرافيا والتاريخ ، ولكن ما علمنا أحد ولا أخبرنا بحقيقة نوايا دا جاما تجاه الإسلام والمسلمين . وبالطبع فما كان لتلك المناهج الدراسية المسلوخة سلخاً من كتب الغربيين أن تخبرنا عن ذلك ، وما كان لنا أن نعرف ما دمنا قد قررنا أن نتلقى العلم عن الغربيين !
وقبيل احتفال البرتغال بالذكرى الخمسمائة لرحلة فاسكو دا جاما ، أنطلقت أصوات الهنود تحتج على إقامة احتفال بذكرى شخص سفك دماءهم ، باعتبار أن ذلك الاحتفال يمثل نوعاً من الاستهتار والاحتقار لتلك الدماء . ورداً على أصوات الهنود التي تعالت بالإحتجاج ، ارتفعت أصوات منظمي الاحتفال تقول بأنهم إنما يحتفلون بفاسكو دا جاما البرتغالي ، لا فاسكو دا جاما الهندي ، بمعنى أنهم يحتفلون بما حققه للبرتغال من كشف أدى بهم للسيطرة على أعالي البحار ، لا بما أصاب به الهند من فتك ذريع ، أوهن ممالكهم وقضى على أقسام عامرة من مجتمعاتهم . وهكذا تأكد أن الاحتفال ينطوي فعلاً على استهانة واحتقار لدماء الهنود .
هذا وإن كانت البرتغال قد عملت على ترضية الهنود وشراء صمتهم بإنشائها لمتحف للثقافة الهندية بلشبونة ، ومشاركتها في بعض البرامج الثقافية بولاية جوا الهندية ، وبإعترافها بأن عام وصول دا جاما إلى الهند كان عاماً صعباً على الهنود . وذلك من غير ما إفاضة في توضيح وجه الصعوبة ، ولا تفصيل يفضي إلى إدانة مسالك دا جاما مع الهنود . وأكثر من ذلك فقد دعا أنطونيو هيسبانا رئيس هيئة الاحتفال بالذكرى نصف الألفية لرحلة دا جاما ، الهنود إلى أن يكفوا عن النوح والعويل ، وإلى أن يطووا صفحة آلام القرن الخامس عشر ! وصرح فاسكو فيليز رئيس مؤسسة الكشوف الجغرافية البرتغالية ، بأن بلاده ليست في حاجة إلى أن تعتذر لأحد بشأن تراث دا جاما قائلاً : " إن دا جاما كان بطلاً غير مصير العالم بأسره إلى الأبد ، وأنه حول مصير العالم إلى مسار أفضل ، ومن العار أن يركز الناس على بعض المآسي والمذابح ، التي ربما اضطر إلى إرتكابها ، أو ربما لم يرتكبها قط " .
ماذا فعل دا جاما في الهند ؟
هذه اللهجة الإعتزازية ، والمتعالية في نفس الوقت ، تخالف ما رصدته كتب التاريخ من أفعال فاسكو دا جاما . وبعض تلك الكتابات التاريخية كانت من تسجيل بعض من كانوا معه على متن السفينة . ولطالما وصف المؤرخون دا جاما بأنه كان ذا قسوة غير عادية ، وكان مما رسخ فيه ذلك الطبع ماضيه الطويل في النخاسة ، إذ قضى مطلع شبابه يمتهن إصطياد الأفارقة من على شاطئ إفريقيا الغربي ليبيعهم في البرتغال . التي لم يخل بيت فيها من العبيد ، وكان مما يؤجج فيه تلك القسوة ، تعصبه الديني ، وطمعه في المقتنيات المادية . ويحكي المؤرخون أنه كان قد خدع في الهنود ، إذ ظنهم نصارى ، وظن معابدهم كنائس ، وجن جنونه عندما اكتشف حقيقة دينهم ، وكانت فجيعته الكبرى عندما رأى المسلمين هنالك ورأى نفوذهم القوي في التجارة والنقل البحري .
وجد دا جاما دويلات هندية صغيرة على الشاطئ تصطرع مع بعضها البعض ، فاستغل الوضع ليحالف بعضها ويوجهها ضد بعضها البعض ، وفي كل الأحوال اشترط أن يعطى إعفاءات وإمتيازات هائلة ، وأن ينصب أميراً لا منازع له على البحر ، وأضاف إلى ذلك شرطاً يقضي بأن يجتث الوجود الإسلامي من جذوره في الهند ، وأن يجرف المسلمون وثقافتهم وتراثهم إلى البحر . أي أن يفعل بهم مثل ما فعل بأشياعهم في الأندلس .
ولدى رفض الهنود لتلك الشروط ، قام دا جاما في سنة 1502 م بقصف مدينة كلكتا . وهذا وصف مختصر لتلك الواقعة مأخوذ من أوراق ملاح جرماني مجهول الاسم رافق دا جاما في رحلته الثانية ، وهي الأوراق التي نشرت لأول مرة في سنة 1905 م وفيها يقول : " وفي السابع والعشرين من أكتوبر سنة 1502 م أبحرنا إلى أن وصلنا إلى مملكة كلكتا ، التي تبعد 40 ميلاً عن كنانور وحشدنا جنودنا عند حدودها ، ثم خضنا معهم حرباً لمدة 3 أيام ، وأسرنا عدداً كبيراً من جنودهم ، قمنا بشنقهم داخل السفن ، وقطعنا أيديهم وأقدامهم ورؤوسهم ، وأخذنا سفينة من سفنهم قذفنا فيها بتلك الأشلاء ، مرفقة برسالة علقناها على عصا ، وبعثنا بتلك السفينة لترسو على ساحلهم " .
كان ذلك ضرباً واحداً من ضروب حرب الترويع التي شنها دا جاما ضد الهنود . والغريب أن دا جاما كان يصب عذابه على البرئ الغافل ليجعل منه أمثولة يرتدع بها الآخرون . والآن فلنقف على ضرب آخر من ضروب تلك القسوة العارمة إذ يحكي لنا صاحب كتاب ( Voyages and Adventures of Vasco da Gama ) المطبوع في سنة 1878 م أن دا جاما اصطحب دليلاً يهودياً يقوده إلى سفن الهنود ، ليقدمه لهم بمثابة صديق ، ذلك بينما كان دا جاما يعد مدفعيته لحرق السفن الهندية . وعندما اطمأن له الهنود واستغرقوا في السبات ، صرخ دا جاما في منتصف الليل آمراً جنوده ببدء القصف ، فأضاء الليل بالقذائف ، واحترقت كل السفن الهندية وتفرق جنود دا جاما يلاحقون الهنود الذين سبحوا ولجأوا إلى الجزر القريبة ، ومزقوهم شر ممزق ... ويقول الراوي أن تلك الحادثة أرعبت كل الهنود وجعلتهم يعاملون البرتغاليين بمزيد من المهابة والاحترام .
وماذا فعل بالمسلمين ؟
كان ذلك بعض ما فعله دا جاما بالهنود ، وقد كانت بعض دوافعه نابعة من شدة الضغن الذي كان يكنه للمسلمين لما رآه من تعايشهم سلمياً مع الهندوس . والغريب أن المسلمين كانوا قد أعانوا دا جاما بكل ما مكنه من نجاح رحلته . فابتداءً كانت الأموال التي أنفقت على الرحلة هي أموال المسلمين البرتغاليين الذين أجبروا على النصرانية ، وكانوا قبل – كما يحكي المؤرخون – يستمتعون بقدر من الحرية الدينية ، وذلك إلى أن تزوج اثنان من أمراء البرتغال بأميرتين إسبانيتين ، جاءت معهما عدوى التعصب ضد المسلمين ، واستحكمت من ثم عقيدة إفناء المسلمين أو تنصيرهم . وهكذا قام الملك عمانويل في سنة 1496 م بمصادرة أموال المسلمين ، وخصصها لصناعة السفن التي مخر بها دا جاما عباب البحر .
وبعد أن تخبط دا جاما لمدة عشرة شهور في البحر اللجي ، وصل إلى شواطئ إفريقيا الشرقية ، واستعان بأمرائها ، فزودوه بملاح ماهر ، بل عالم بجغرافيا البحار ، حيث وضع فيها عدة كتب لا تزال تسعة عشر كتاباً مخطوطاً منها محفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس ( Bibliotheque Nationale, Paris ) فبعد أن تاه فاسكو دا جاما طويلاً في البحر ، ويئس من الوصول إلى الهند ، تصرف أخيراً كقرصان ، إذ احتجز في سفينته الرسول الودي الذي بعثه إليه شيخ منطقة ماليندي ورفض إطلاق سراحه حتى يبعث إليه الشيخ بدليل ماهر يقوده إلى الهند . كان ذلك الدليل الماهر هو أحمد بن ماجد الذي دخل إلى كابينة القيادة ونثر خرائطه الجغرافية ، وقام بتوجيه القبطان إلى أن رست سفينتهم على سواحل الهند في يوم 22 / 5 / 1498 م ، وفوجئ دا جاما بأن التجار المسلمين قد سبقوه إلى هناك ، وأقاموا لأنفسهم مكاناً علياً في كلكتا ، وتزاوجوا مع السكان ونشروا دعوة الإسلام هناك ، وهو الأمر الذي أثار حنق دا جاما ، الذي نشأ على كره المسلمين ، وشهد مآسي طردهم من الأندلس ، وشمت بأميرهم الذي خرج ذليلاً من قصره ليقبل أيدي إيزابيلا ، ولذلك فقد حرص عند رجوعه إلى البرتغال على التحريض على المسلمين والالحاح على ضرورة إفنائهم ، حتى لا يعترضوا سيطرة البرتغال على أعالي البحار . وبالفعل فقد جرد ملك البرتغال حملة كبرى على المسلمين ، قوامها 33 سفينة و 1500 مقاتلاً ، ولكن حالت حماقاتهم واصطدامهم بالساموريين دون نفاذ مخططهم .
إحراق الحجاج :
ولكن مع ذلك لم يخل سجل دا جاما من اصطدامات مباشرة وعنيفة مع المسلمين . ويحكي لنا صاحب كتاب ( Sea Road To The Indies ) وهو من أوثق الكتب عن رحلة فاسكو دا جاما ، القصة التالية عن إجرامه : " وبعد أيام قليلة رأى دا جاما السفينة العربية ( ميري ) قادمة من ناحية الغرب . وهي سفينة تتبع لشقيق خوجة قاسم في كلكتا ، وكانت السفينة قادمة لتوها من مكة ، وفي جوفها 380 من الرجال والنساء والأطفال ، بالإضافة إلى البضائع ، وكان معظم هؤلاء الركاب قد فرغوا من أداء شعيرة الحج متوجهين إلى بلادهم كلكتا ، فقام القائد البرتغالي بمطاردة تلك السفينة واحتجازها بعد أن استسلمت له من غير مقاومة ، بسبب عدم جدوى أي مقاومة لسفينة دا جاما ، التي كانت تحوي عدداً ضخماً من الرجال المدججين بالسلاح . وأمر دا جاما بمصادرة كل البضائع والأسلحة ، ولما أنكر العرب وجود أي ممتلكات ثمينة بحوزتهم أمر الأدميرال بقذف اثنين منهم إلى البحر ، وقذفا فوراً ليلقيا حتفهما غرقاً ، وعندها اعترف الباقون بما يوجد عندهم من المقتنيات الثمينة ، فأخذت وشحنت بالسفينة ( ديجو فيرناندس كوريا ) وخصصت للملك ، بينما قسم بقيتها بين ملاحي دا جاما . وقد استغرقت مهمة تفريغ تلك الأشياء يومين كاملين . ولم يكتف الأدميرال بذلك ، بل أبدى شكه في أن المحمديين ربما أخفوا بعضاً من تلك الأشياء ، وربما أخفوا أيضاً بعض الأسلحة " . وهكذا لم يكتف دا جاما بسلب سفينة مسالمة ، تتبع لقطر ليس في حالة حرب مع بلاده ، " بل واصل قرصنته غير المبررة ليختمها بأخس وأضرى فعل جاء به في حياته العملية كلها ، إذ أمر بكل برود بحشر كل الركاب في مخزن السفينة ، وإشعال النار فيها ، حيث ماتوا جميعاً محترقين " .
هذا الفعل غير المبرر في نظر ذلك المؤرخ الذي روى الواقعة ، يبرره لنا غربي آخر هو بارو ( Barroe ) ، إذ يقول : " صحيح أنه يوجد حق عام للكل للملاحة في كل البحار ، ولكن ذلك الحق مقصور على أوربا ، ولذلك جاز للبرتغاليين باعتبارهم ملوك البحار أن يصادروا – في خارج أوربا – بضائع كل من يجول في تلك البحار بغير إذن منهم " . ويقول بانيكار ، صاحب كتاب Asia And Western Dominance ) ) ، " إن مبادئ القانون الدولي ما كانت تسري على العالم غير الأوربي ، ولذلك تصرف دا جاما بقانون الغاب الذي كان يسري وحده على تلك البقاع " .
وبالطبع ، فإن قانون الغاب لم يكن سارياً على تلك البقاع ، وأبلغ دليل على ذلك ، هو حالة التعايش السلمي الذي شهده دا جاما بين المسلمين والهندوس ، وقد كان كلاهما أكثر تحضراً وإنسانية من البرتغاليين وسائر الغربيين ، وقد طور المسلمون بخاصة ، على يد إمامهم الشيباني ، مواد القانون الدولي ، قبل أن يضع جروشيوس الهولندي كتاله فيه بثمانية قرون ، وظلوا يحكمون به العالم في قسط وبر ، لا يفرقون فيه بين رقع وصقع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق