ثورة 23 يوليو بين ثورات المصريين
بقلم: د. طه عبد العليم
بقلم: د. طه عبد العليم
لم تستكن مصر ولا استسلمت أبدا في مواجهة الاحتلال الأجنبي, ولم تنقطع مقاومتها الإيجابية أو السلبية. ولا يجدر بنا أن ننسي أن مصر قد تمتعت بالاستقلال نحو سبعين في المئة من تاريخها.
كما بينت في مقال لدحض نظرية أن مصر أطول المستعمرات عمرا! وحين تعرضت مصر للغزو والاحتلال كانت ثورات مصر والمصريين من أجل التحرر الوطني فاعلة ومثلت علامات تحول بارزة وأحيانا سباقة تاريخيا. وتبدأ ثورات التحرير بثورة طيبة, أول وأقدم ثورة للتحرر الوطني في التاريخ العالمي, وتنتهي بثورة' يوليو', رائدة وملهمة ثورة التحرر الوطني من الاستعمار الحديث.
وتقول نظرية, تكاد تكون غالبة, إن مصر كانت تتخذ موقفا سلبيا بدرجة أو بأخري من الغزاة الطامعين فيها, فلا يكاد يبدي المصريون مقاومة تذكر, إن لم يقفوا متفرجين علي صراع الغزاة فيما بينهم علي أرضهم في انتظار نتيجة التصفية! وتضيف أنهم كانوا أحيانا يرحبون بغاز جديد أو يتركونه ليطرد غازيا قديما, بحيث لم يكن لهم هم أنفسهم دور أو فضل كبير بصفة خاصة في التحرير.
يقول البعض بأن مصر كانت مستقلة تحت حكام أجانب في بعض فترات العصر الإسلامي, ولكن لم يكن كذلك المصريون. بل نري عاشقا لمصر هو حسين فوزي يقول في مؤلفه الرائد' سندباد مصري': إن مصر طوال ألفي سنة تحولت إلي قوة منزوعة السلاح وإلي شعب أعزل, حين انتزع الحكام الأجانب كالمماليك المرتزقة والأتراك وظيفة الحرب لأنفسهم, فانصرفت هي إلي صناعة الحضارة وانصرفوا إلي صناعة الحرب, وأن مصر كانت' وعاء القوة' ولكنها لم تكن' أداة القوة', حيث كانت قوة ضاربة ولكن في يد غيرها; أي كانت مصر' مطرقة قوة' ضخمة ولكن لم تكن' اليد الضاربة'!
ويتصدي جمال حمدان لهذه النظرية الباطلة, مؤكدا أن تاريخ مصر والمصريين كان سجل صراع طويل وحافل ترصعه انتفاضات شعبية متواترة, قد تفصل بينها فترات اعتراضية من الصبر المتربص, ولكنها قد تتحول أيضا في حالات إلي انفجارات وثورات. ويقول العالم الفرنسي ماسبيرو في مؤلفه' نضال الأمم' إن ثورات التحرير الوطنية المصرية لم تنقطع منذ بسط الاستعمار الفارسي نفوذه علي مصر, وسجلت ثلاث انتفاضات خطيرة خلخلت قبضة الفرس كثيرا, واستطاعت ثلاث أسر مصرية مستقلة أن تنشأ خارج أو داخل الوجود الفارسي, معاصرة أو مصارعة له. وشهد العصر الروماني كثيرا من الفورات الشعبية, ولعبت الكنيسة القبطية والرهبنة دورا هاما بالمقاومة الإيجابية والسلبية علي السواء.
وفي العصور الوسطي, في ظل العصر التركي المملوكي, غدت الانتفاضات والمواجهات والثورات تيارا متقطعا ولكنه لا ينقطع, حيث تعددت بين ثورات الريف وثورات المدن في الدلتا والصعيد وفي العاصمة.. إلخ. ويسجل جمال حمدان أنه من الصحيح أن أكثر هذه الثورات لم يزد علي أن يكون مجرد هبات أو' هوجات' وتمردات, عاجزة فاشلة, وبعضها كان محض دفاع عن النفس في وجه غياب وانهيار السلطة المركزية المملوكية. لكن الصحيح أيضا_ كما يستدرك صاحب' شخصية مصر'- أن الكثير منها كان مواجهات دامية مع الطغيان, نجحت في كسر وتقييد الاستبداد وإن نسبيا, وأرغمت الحكام الأجانب علي تقديم تنازلات هامة.
وفي الصراع ضد الاحتلال العثماني والحكم المملوكي كثيرا ما كانت الجماهير تلجأ إلي علماء الأزهر مثقفي العصر, كقيادة شعبية أو كضاغط علي الحكم, خاصة قبيل الحملة الفرنسية وبعدها.
وقد تمكن المصريون في النهاية من عزل الوالي العثماني وفرض بديله محمد علي, في حدث جسد ثورة شعبية حقيقية قادها الزعيم المصري عمر مكرم وهزت المجتمع المصري, وحققت عملية تتويج محمد علي مقولة الجبرتي- رغم ما بها من مبالغة, كما يتحفظ وبحق جمال حمدان- بأنه:' جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة.. حتي الخليفة والسلطان, إذا سار فيهم بالجور, فإنهم يعزلونه ويخلعونه'!
والنظرية التي تسم المصريين بالسلبية, إن لم تكن منحرفة أو متحيزة, لا يمكن إلا أن تكون جزئية أو مبتسرة علي الأقل, لأنها تتناسي حالات المقاومة العنيدة العنيفة والدموية بالعشرات المتمثلة في الثورات والانتفاضات والصدامات مع الجميع.
فلم يحدث أن دخل مصر غاز أجنبي أو أقام بها كنزهة عسكرية بلا ثمن باهظ من الدماء والخسائر الفادحة, بل والانكسارات المحققة أحيانا. والمقاومة الوطنية المستبسلة والمصرة هي, مثلا, التي طردت أول غزاة لمصر من البر بقيادة أحمس الأول, وأول غزاة لها من البحر وهم شعوب البحر بقيادة رمسيس الثالث, كما بينت في مقال سابق لدحض نظرية أن المصريين شعب غير محارب!
ثم بعد ذلك- كما يلخص صاحب شخصية مصر- تبرز ظاهرة نضالية معينة تتكرر تحت كل استعمار بإلحاح; كأنها اللحن المميز: صراع دموي قاس رهيب وواسع النطاق للغاية بين المصريين والمحتل الأجنبي, يتخذ شكل ثورتين أو ثلاث علي الأقل في كل حالة, أو سلسلة من التمردات العسكرية وحركات العصيان. وكثيرا ما يضطر الإمبراطور المستعمر إلي القدوم بنفسه لإخماد المقاومة دون جدوي غالبا, بل وأحيانا ما كان الحاكم المحلي يقتل فيها أو يطرد طردا, هذا فضلا عن مجموعة إمارات مستقلة يقتطعها التحرير الوطني خارج نطاق الاحتلال.
حدث هذا خلال كل من الاحتلال الليبي والإثيوبي والأشوري والفارسي, وكذلك تحت البطالمة واحتلال الرومان, بل وحتي تحت حكم العرب كما حدث في ثورة المصريين في عهد الخليفة المأمون, وقتال أهل تنيس لجند المعز الفاطمي' قتالا شديدا' كما سجل المقريزي. وفيما بعد كانت المقاومة الوطنية هي التي ألقت بحملة فريزر الإنجليزية في البحر, وبفضل ثورة المصريين وكفاحهم المسلح قبل أي شيء طردت حملة نابليون الفرنسية.
وتتناسي نظرية سلبية المصريين المزعومة أين ذهب غزاة مصر: لقد بادوا أو ذهبوا, وبقيت مصر! فبقوة حيويتها, وبقدرة نادرة علي الامتصاص, ابتلعتهم بالتدريج في جسمها الكبير, حتي انتهي الأمر بالمنتصر عسكريا إلي الهزيمة البشرية بينما خرجت هي مقبرة الغزاة المثالية, أكبر مقبرة للغزاة.
ولقد يرد أعداء مصر قائلين: لقد فقدت استقلالها في مقابل بقائها! ولكن هذا بدوره مردود عليه! فالقدرة علي امتصاص الصدمات, كما يؤكد جوبليه, هي المقياس الحقيقي الوحيد لحيوية الشعوب والدول. وقد كان المصريون قوة صامدة صابرة وكتلة صماء صلبة غير منفذة للأجنبي بسهولة; وعلي هذه الصخرة بالذات تحطمت الغزوات أو تآكلت!
وتبقي نظرية باطلة أخري تزعم أن المصريين يتصفون بمتناقضة محيرة هي سهولة الانقياد والخضوع للحاكم الوطني وبين الصلابة النادرة والشجاعة في مواجهة الإستعمار الأجنبي. وهذه نظرية تستحق إطلالة لاحقة, لابد وأن تختتم بانصاف ثورة يوليو رغم إخفاقاتها!
** نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية
كما بينت في مقال لدحض نظرية أن مصر أطول المستعمرات عمرا! وحين تعرضت مصر للغزو والاحتلال كانت ثورات مصر والمصريين من أجل التحرر الوطني فاعلة ومثلت علامات تحول بارزة وأحيانا سباقة تاريخيا. وتبدأ ثورات التحرير بثورة طيبة, أول وأقدم ثورة للتحرر الوطني في التاريخ العالمي, وتنتهي بثورة' يوليو', رائدة وملهمة ثورة التحرر الوطني من الاستعمار الحديث.
وتقول نظرية, تكاد تكون غالبة, إن مصر كانت تتخذ موقفا سلبيا بدرجة أو بأخري من الغزاة الطامعين فيها, فلا يكاد يبدي المصريون مقاومة تذكر, إن لم يقفوا متفرجين علي صراع الغزاة فيما بينهم علي أرضهم في انتظار نتيجة التصفية! وتضيف أنهم كانوا أحيانا يرحبون بغاز جديد أو يتركونه ليطرد غازيا قديما, بحيث لم يكن لهم هم أنفسهم دور أو فضل كبير بصفة خاصة في التحرير.
يقول البعض بأن مصر كانت مستقلة تحت حكام أجانب في بعض فترات العصر الإسلامي, ولكن لم يكن كذلك المصريون. بل نري عاشقا لمصر هو حسين فوزي يقول في مؤلفه الرائد' سندباد مصري': إن مصر طوال ألفي سنة تحولت إلي قوة منزوعة السلاح وإلي شعب أعزل, حين انتزع الحكام الأجانب كالمماليك المرتزقة والأتراك وظيفة الحرب لأنفسهم, فانصرفت هي إلي صناعة الحضارة وانصرفوا إلي صناعة الحرب, وأن مصر كانت' وعاء القوة' ولكنها لم تكن' أداة القوة', حيث كانت قوة ضاربة ولكن في يد غيرها; أي كانت مصر' مطرقة قوة' ضخمة ولكن لم تكن' اليد الضاربة'!
ويتصدي جمال حمدان لهذه النظرية الباطلة, مؤكدا أن تاريخ مصر والمصريين كان سجل صراع طويل وحافل ترصعه انتفاضات شعبية متواترة, قد تفصل بينها فترات اعتراضية من الصبر المتربص, ولكنها قد تتحول أيضا في حالات إلي انفجارات وثورات. ويقول العالم الفرنسي ماسبيرو في مؤلفه' نضال الأمم' إن ثورات التحرير الوطنية المصرية لم تنقطع منذ بسط الاستعمار الفارسي نفوذه علي مصر, وسجلت ثلاث انتفاضات خطيرة خلخلت قبضة الفرس كثيرا, واستطاعت ثلاث أسر مصرية مستقلة أن تنشأ خارج أو داخل الوجود الفارسي, معاصرة أو مصارعة له. وشهد العصر الروماني كثيرا من الفورات الشعبية, ولعبت الكنيسة القبطية والرهبنة دورا هاما بالمقاومة الإيجابية والسلبية علي السواء.
وفي العصور الوسطي, في ظل العصر التركي المملوكي, غدت الانتفاضات والمواجهات والثورات تيارا متقطعا ولكنه لا ينقطع, حيث تعددت بين ثورات الريف وثورات المدن في الدلتا والصعيد وفي العاصمة.. إلخ. ويسجل جمال حمدان أنه من الصحيح أن أكثر هذه الثورات لم يزد علي أن يكون مجرد هبات أو' هوجات' وتمردات, عاجزة فاشلة, وبعضها كان محض دفاع عن النفس في وجه غياب وانهيار السلطة المركزية المملوكية. لكن الصحيح أيضا_ كما يستدرك صاحب' شخصية مصر'- أن الكثير منها كان مواجهات دامية مع الطغيان, نجحت في كسر وتقييد الاستبداد وإن نسبيا, وأرغمت الحكام الأجانب علي تقديم تنازلات هامة.
وفي الصراع ضد الاحتلال العثماني والحكم المملوكي كثيرا ما كانت الجماهير تلجأ إلي علماء الأزهر مثقفي العصر, كقيادة شعبية أو كضاغط علي الحكم, خاصة قبيل الحملة الفرنسية وبعدها.
وقد تمكن المصريون في النهاية من عزل الوالي العثماني وفرض بديله محمد علي, في حدث جسد ثورة شعبية حقيقية قادها الزعيم المصري عمر مكرم وهزت المجتمع المصري, وحققت عملية تتويج محمد علي مقولة الجبرتي- رغم ما بها من مبالغة, كما يتحفظ وبحق جمال حمدان- بأنه:' جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة.. حتي الخليفة والسلطان, إذا سار فيهم بالجور, فإنهم يعزلونه ويخلعونه'!
والنظرية التي تسم المصريين بالسلبية, إن لم تكن منحرفة أو متحيزة, لا يمكن إلا أن تكون جزئية أو مبتسرة علي الأقل, لأنها تتناسي حالات المقاومة العنيدة العنيفة والدموية بالعشرات المتمثلة في الثورات والانتفاضات والصدامات مع الجميع.
فلم يحدث أن دخل مصر غاز أجنبي أو أقام بها كنزهة عسكرية بلا ثمن باهظ من الدماء والخسائر الفادحة, بل والانكسارات المحققة أحيانا. والمقاومة الوطنية المستبسلة والمصرة هي, مثلا, التي طردت أول غزاة لمصر من البر بقيادة أحمس الأول, وأول غزاة لها من البحر وهم شعوب البحر بقيادة رمسيس الثالث, كما بينت في مقال سابق لدحض نظرية أن المصريين شعب غير محارب!
ثم بعد ذلك- كما يلخص صاحب شخصية مصر- تبرز ظاهرة نضالية معينة تتكرر تحت كل استعمار بإلحاح; كأنها اللحن المميز: صراع دموي قاس رهيب وواسع النطاق للغاية بين المصريين والمحتل الأجنبي, يتخذ شكل ثورتين أو ثلاث علي الأقل في كل حالة, أو سلسلة من التمردات العسكرية وحركات العصيان. وكثيرا ما يضطر الإمبراطور المستعمر إلي القدوم بنفسه لإخماد المقاومة دون جدوي غالبا, بل وأحيانا ما كان الحاكم المحلي يقتل فيها أو يطرد طردا, هذا فضلا عن مجموعة إمارات مستقلة يقتطعها التحرير الوطني خارج نطاق الاحتلال.
حدث هذا خلال كل من الاحتلال الليبي والإثيوبي والأشوري والفارسي, وكذلك تحت البطالمة واحتلال الرومان, بل وحتي تحت حكم العرب كما حدث في ثورة المصريين في عهد الخليفة المأمون, وقتال أهل تنيس لجند المعز الفاطمي' قتالا شديدا' كما سجل المقريزي. وفيما بعد كانت المقاومة الوطنية هي التي ألقت بحملة فريزر الإنجليزية في البحر, وبفضل ثورة المصريين وكفاحهم المسلح قبل أي شيء طردت حملة نابليون الفرنسية.
وتتناسي نظرية سلبية المصريين المزعومة أين ذهب غزاة مصر: لقد بادوا أو ذهبوا, وبقيت مصر! فبقوة حيويتها, وبقدرة نادرة علي الامتصاص, ابتلعتهم بالتدريج في جسمها الكبير, حتي انتهي الأمر بالمنتصر عسكريا إلي الهزيمة البشرية بينما خرجت هي مقبرة الغزاة المثالية, أكبر مقبرة للغزاة.
ولقد يرد أعداء مصر قائلين: لقد فقدت استقلالها في مقابل بقائها! ولكن هذا بدوره مردود عليه! فالقدرة علي امتصاص الصدمات, كما يؤكد جوبليه, هي المقياس الحقيقي الوحيد لحيوية الشعوب والدول. وقد كان المصريون قوة صامدة صابرة وكتلة صماء صلبة غير منفذة للأجنبي بسهولة; وعلي هذه الصخرة بالذات تحطمت الغزوات أو تآكلت!
وتبقي نظرية باطلة أخري تزعم أن المصريين يتصفون بمتناقضة محيرة هي سهولة الانقياد والخضوع للحاكم الوطني وبين الصلابة النادرة والشجاعة في مواجهة الإستعمار الأجنبي. وهذه نظرية تستحق إطلالة لاحقة, لابد وأن تختتم بانصاف ثورة يوليو رغم إخفاقاتها!
** نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق